يحضر كل أحبة السياب على مائدة شعره.اصدقاؤه وأحبابه. عائلته وأهله. زوجته اقبال وابنه غيلان. ابنتاه غيداء والاء. غيلان أضحى الآن أباً لبدر الجديد. وفيه بقايا السياب روحاً وهيئة. ما الذي يتذكره عن أبيه بعد كل هذا العمر؟ غيلان الذي قال عنه السياب مرة: "ينساب صوتك في الظلام، اليّ، كالمطر الغضيرينساب من خلل النعاس وانت ترقد في السريرمن أيّ رؤيا جاء؟ أيّ سماوة؟ أيّ انطلاق؟ / وأظل اسبح في رشاش منه، اسبح في عبير/ فكأن أودية العراق فتحت نوافذَ من رؤاكَ على سهادي: كلّ وادٍ / وهبته عشتار الازاهر والثمار. كأن روحي / في تربة الظلماء حبةُ حنطةٍ وصداك ماء/. أعلنتِ بعثي يا سماء". غيلان الآن تجاوز منتصف ثلاثيناته. كان في السادسة عندما مات السياب. واستطاع ان يكمل اختصاص الهندسة المدنية في اميركا. وهو مقيم فيها منذ العام 1981. فما الذي يتذكر غيلان الآن عن أبيه؟ يقول غيلان السياب: ولدت في بغداد ونشأت في البصرة. حتى أوائل العشرينات من عمري، حين غادرت البصرة مخلفاً كل جميلٍ من عمري ومخلفاً روحي هناك. ما أذكره هو أننا - العائلة - كنا نسكن في منطقة المعقل في البصرة، لأن أبي حين انتقل من بغداد الى البصرة أصبح موظفاً في مديرية الموانئ العراقية التي يعمل ويسكن معظم موظفيها في المعقل. والبيت الذي كنا نسكن فيه ليس هو "منزل الأقنان" كما يظن البعض وليس "دار جدي" كذلك، بل هو بيت حكومي مؤجر. وكان أهل أبي، عمات أبي بالتحديد، يسكنّ في بكيع وهي قرية صغيرة في أبي الخصيب تُعد من أطراف جيكور القصية. صغاراً كنا نقوم بزيارة عمات أبي في بكيع، تلك التي كانت قطعة جنّة ببيوتها الطينية وبساتينها ونخيلها وأهلها الطيبين. وهناك كنا نلعب فوق بقايا "منزل الأقنان" وهو بيت طيني صغير يقع في أحد بساتين آل سياب، كان يقيم فيه الفلاحون الذين عملوا لدى العائلة أيام عزّها القديم. كما كنا نلعب بين أطلال الدار الكبيرة التي خلدها أبي بقصيدة "دار جدي". وهي كانت تخيفني جداً حينذاك لأني كنت أتصور أن أرواح الموتى تسكنها وتجوبها. حينما غبت عن العراق وعدت في زيارة قصيرة نهاية 1988 أردت الذهاب الى بكيع حيث العمر كله والجذور، لكنني لم أستطع ذلك. أصبحت بكيع أيام الحرب مع إيران ضمن الخطوط الدفاعية، وعلى رغم انتهاء الحرب لم أتمكن من الوصول اليها. وفجعت برؤية أبي الخصيب وقتها، فجنتي وجنة السياب التي ألهمته وأوحت اليه كانت خراباً في خراب. ليس هناك أقسى على النفس والروح من دمار مهد الذكريات. لم أحتمل رؤية النخيل المحترق والأنهار المزروعة بأسلاك الحديد والبساتين الميتة والبيوت المهدمة، فطلبت العودة، وهكذا كان. حين أقرأ قصائد أبي وبالذات قصائد جيكور، يمتلئ قلبي حزناً واسى لأني أدرك بأن جيكور "من دونها قام سورٌ / وبوابةٌ / وأحتوتها سكينة" أسرة السياب تتكون من والدتي وأختي وصغرى عمات والدي العمة آسيه، أمنا الأخرى، بل أقول الأولى قبل أمنا التي انجبتنا، والتي لم أفجع بأحد بعد أبي كما فجعت برحيلها منذ عامين. هذه الأسرة الصغيرة أُخرجت قسراً من البيت الحكومي الذي كانت تستأجره، يوم وصول جنازة الوالد من الكويت بالذات. لأن السياب كان قد استنفد كموظف حكومي جميع اجازاته الاعتيادية والمرضية حين ذهب للمعالجة في الكويت. ولم تجد مديرية الموانئ العراقية التي كان يعمل لديها بداً من فصله من وظيفته وبالتالي لم يعد يحق له أو لعائلته استئجار المنزل الحكومي المذكور. فترة مرض أبي متداخلة في ذكرياتي مع ما قبلها، ولا أكاد أذكر عنه إلا القليل من مرحلة ما قبل المرض. ما أذكره هو العصا الخشبية التي ظهرت في حياة أبي لتعينه على المشي... ثم ابتدأنا - أنا وأختي - نسمع من الكبار أن أبي سيسافر ونحيا فترات السفر تلك التي كنا نراها طويلة جداً مع وعود تحملها رسائل من أبي، بهدايا ولعب مدهشة سيحملها الينا. بقيت في ذهني سفرته الأخيرة التي حملته الى الكويت حيث السرير الأخير والمستشفى الأخير. استحضر دوماً صباح ذلك اليوم ونحن في مطار البصرة وأبي يحمله كرسي متحرك نحو الطائرة، وهو بثوب عربي أبيض وكوفية بيضاء مما يلبسه أهل الكويت وبعض أهل البصرة ايامها. وأذكر كيف طارت الريح بكوفيته البيضاء وهو محمول على سلم الطائرة، يلوح لنا ويبتسم تلك الابتسامة الواسعة رغم المرض والعذاب. من الغريب ان تكون ذكرياتي الخاصة عن طفولتي، وبالذات عن مراحلها المبكرة، من أكثر ذكرياتي وضوحاً. ربما لأنني كنت في مرحلة من حياتي، هي بداية سن المراهقة تحديداً، أحيا ليلياً مع تلك الذكريات، عندما كانت أشواقي الى أبي واحتياجي اليه في أوجها. كنت أهرب اليه في الذكريات، وأستعيده وأستعيد ذلك العمر الجميل والقصير معه. ما زلت أراه مثلاً في تلك الليلة الصيفية الجميلة، وسماء البصرة تنثر نجومها، وأنا أصغي الى حكاياته في باحة الدار. وما أكثر ما كان يروي لي من حكايات. كنت آنذاك في الرابعة من عمري تقريباً، وكانت آثار المرض في بداياتها الأولى، لا يكاد يظهر منها سوى العصا. وأذكر فيما أذكر كيف كنا نذهب الاء شقيقتي الصغرى وأنا، لزيارة ابي في غرفته في مستشفى الموانئ في البصرة، وكان قريباً من بيتنا، وكيف كنا نصرخ "بابا" ثم نجري باتجاه غرفته قبل الوصول اليها بكثير، مثيرين حولنا ضحك المرضى الآخرين وربما سخط بعضهم. وأذكر بالذات من هذه المرحلة - مرحلة رقود الوالد في مستشفى الموانئ - تلك الجراح الفاغرة التي فتحت أفواهها في ظهر أبي لكثرة الرقاد في السرير بعد استفحال الشلل في نصفه الأسفل وصراخه ألماً عند علاجها. هناك ذكريات كثيرة أخرى لا أدري ماذا أروي منها، مع العلم أني كنت حتى اليوم أرفض الحديث عنها لأني كنت أراها خاصة بي وحدي وليست مادة يقرأها الناس... لكني الآن أرى انها قد تلقي بعض الضوء على بدر شاكر السياب الأب والانسان. وفي البال أيضاً ذكريات عن سفري ووالدتي الى بيروت التي سبقنا ابي اليها للعلاج... ولا أزال ابتسم كلما استعدت وصولنا ليلاً الى بيروت، واستحضر صورة أبي الواقف في انتظارنا خلف حاجز زجاجي وهو يشير اليّ بعصاه بفرحة فأتوارى منه خلف حاجز ما ثم أعود الى الظهور. وزارة الاعلام في العراق ذكرت السياب عام 1973 فيما أذكر وأقامت له أول مهرجان رسمي. وتم نصب تمثال له يطل على شط العرب في البصرة. وكان هذا الجهد عملاً استثنائياً حينها، خصوصاً في العراق. والفضل في ذلك يعود الى الشاعر الراحل شفيق الكمالي وزير الاعلام في تلك الفترة. كما قامت الدولة بشراء وترميم "دار جدي" وهي دار جدنا الكبير السياب في بكيع بهدف تحويلها الى متحف. بالنسبة الى أسرتي، لم يطرق أحد بابنا - "الباب ما قرعته غير الريح"! - ولم نطرق نحن باب أحد والحمدلله. وأذكر كيف كان زملاء المدرسة بعد الاحتفاء الرسمي يلمّحون لي عرضاً وقصداً أن دارنا التي نسكن هي هبة من الدولة كجزء من الاحتفاء والتكريم. لا يعلم أحد أن بدر شاكر السياب لم يحصل لا هو ولا أسرته من بعده سوى على راتب تقاعدي صرف له بعد ما يقارب 6 سنوات، أو ربما أكثر، على وفاته ومقداره خمسة وثلاثون ديناراً عراقياً. بعد وفاة الوالد، لم ألتقِ أحداً من أصدقائه، ولم تكن للأسرة صلات بأحد عدا ما ذكرت حول الشاعر شفيق الكمالي. والوحيد الذي كانت لنا صلة به كأسرة، هو الشاعر الكويتي علي السبتي الذي لا أنسى جميله، سواء في مرحلة وجود الوالد في الكويت في أيامه الأخيرة أو بعد وفاته. هو الصديق الوحيد تقريباً الذي بقي على صلة بنا. كان يقصدنا كلما زار البصرة أو يستقبلنا كلما زرنا نحن الكويت. ثم لم تلبث هذه الصلة أن انقطعت في السبعينات، كتبت الشعر مطلع شبابي. وأفضله الآن على بقية الفنون. ولا أرى خيراً من أن يقال إننا امة شاعرة. فمن يعش في الغرب يدرك قيمة هذه الكلمة في حياته. دفء الشعر وحرارة العاطفة التي تسكنه. شعر الحنين لدى أبي اقرب الى قلبي من غيره، فأنا غريب في بلد غريب. ومنذ سنين، يمضني شوقي الى العراق، والى أحبتي فيه. يضنيني هذا المنفى ذو القلب الثلجي. كل يوم يمر عليّ يقطع خيط أمل وتبهت لون ذكرى. سفر أيوب وقصائد جيكور جيكور والمدينة، جيكور واشجار المدينة... اقرب قصائد أبي الى قلبي كما ان قصيدته انشودة المطر فيها الكثير من اللوعة المتجددة. وبين الشعراء العرب أحسّ أني قريب من أمل دنقل، فهو يستطيع ان يثير انفعالي، وعلى وجه الخصوص في "أوراق الغرفة 8" وفي قصيدة "مقتل كليب". كتب أبي قصيدته الأخيرة في كراس مدرسي، وبخط مرتعش متعب ولكنه واضح. قصيدة "اقبال والليل" هذه لها مكانة خاصة لديّ. انني احتفظ بها كشيء ثمين.