ما أقسى أن يرقب المرء لقاء عزيز عليه في مرضه، ثم تعاكسه الظروف حتى اليوم الأخير من حياته، فتبقى حسرة في خاطره، وغصّة يتجرّعها بصبر، ويبتلعها بعميق حزن، يستشعر حكمة الله وإرادته في عدم تحقيق أمنيته، والسفير عبدالرحمن القاضي كان في وضع حقيق بزيارة محبّيه، أمضى الأشهر الثلاثة الأخيرة بين المشفى والمنزل، محتفظاً بذاكرة وفيّة لمحبّيه، وروح محتسبة عالية، ومشاعر كريمة لمن حوله، والطرفة المرحة لا تفارقه مُهجته في بهجة متحرّكة في كل الظروف والمناسبات ومع كل من يعرفهم من الرسميين أو الأصدقاء، اختار الإقامة في العقدين الأخيرين من حياته في القاهرة التي أمضى سنوات الدراسة الجامعية وبعضاً من سنوات العمل الدبلوماسي المبكر فيها. والراحل الكريم عن نحو 90 عاماً، هو ابن المؤرخ والشاعر إبراهيم المحمد القاضي (المتوفى بعد عام 1341 ه) الذي ترجم له العلّامة حمد الجاسر ضمن «مؤرخي نجد من أهلها» وقد أُضيع معظم شعره، لكن ابنه يحفظ له قصيدة مشهورة قالها الوالد بحضور الملك عبدالعزيز وهو يحل ضيفاً في منزل الأسرة بحارة»الجادّة» بعنيزة، يقول في مطلعها: وهناك قصيدة أخرى رواها الشيخ حمد الجاسر في ترجمته لوالده موجهة للملك عبدالعزيز بشأن حايل ومطلعها: كما أن الراحل الكريم حفيد»شاعر نجد الكبير»محمد العبدالله القاضي، المتوفى عام 1285 ه ورث عنه الموهبة الشعرية والمعاني الرفيعة، لكنه حوّل تلك الموهبة من العامية الى مقطوعات إخوانيّة بالفصحى، محتفظاً بها في نحو خمسة عشر ديواناً مطبوعة في القاهرة محدودة التداول، ثم حالت ظروفه الصحية وضعف البصر دون الاستمرار في إنتاج المزيد، ولم يرغب في نشر شيء منها صحفيّاً، وكانت قصائده خاصة لا يتجاوز معظمها عشرة أبيات. تخرّج في جامعة القاهرة في منتصف السبعينيات الهجرية (أواسط الخمسينيات الميلادية) بتخصص الحقوق، وكان مع زملائه في الدراسة يمثِّلون الجيل الثاني من البعثات السعودية للدراسة في مصر، وفي الوقت نفسه عاصر في عمله معظم الجيل المخضرم من الدبلوماسيين والسفراء والقناصل السعوديين وعمل مع كثير منهم في عهد وزيري الخارجية (الأمير فيصل ثم الأمير سعود الفيصل) من أمثال عمر السقّاف وإبراهيم السويّل ومحمد الحمد الشبيلي وعبدالرحمن الحليسي وعبدالرحمن منصوري وطاهر رضوان وعبدالرحمن العمران وعبدالعزيز وعلي الصقير وبكر خميّس وعبدالرحمن العبدالعزيز الشبيلي ومحمد إبراهيم مسعود وإبراهيم السلطان ومأمون كردي وناصر المنقور وفؤاد ناظر ومحمد المنصور الرميح وعبدالعزيز وحمود الزيد وجميل الحجيلان وعبدالرحمن أباالخيل ومحمد نوري إبراهيم وخالد الناصر التركي وعبدالرحمن البسام وعبدالله حبابي وغيرهم، وتدرّج في مختلف الوظائف في ديوان وزارة الخارجية واختير في نهايتها رئيساً للدائرة العربية، وحضر العديد من مؤتمرات الجامعة العربية والجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، ومكث في الوظائف الدبلوماسية طويلاً قنصلاً عاماً في نيويورك، وفي السفارات السعودية في القاهرة ثم في بيروت، ًثم عيّن في منتصف السبعينيات الميلادية سفيراً للسعودية في البحرين (سلفاً للدكتور غازي القصيبي) ثم في السويد، منتقلاً - بتندره المعهود - من الفرن إلى الثلاجة. مال في السنين القليلة الأخيرة من حياته إلى الانطواء والتزام المنزل بسبب من ظروف نظره، وهو بطبعه يغلب عليه العزوف عن التدخّل في شؤون غيره، لكنه كان يتابع الأحداث من وسائل الإعلام، ويشترك في تحليلها مع زواره المعدودين ويحرص على الموضوعية في المناقشة، ويكون له رأي في المستجدّات وفي الأمور الفكرية والسياسية برأي ثاقب مستنير يغترف من تجربته وخبرته الطويلة، وهو مع دماثة حديثه ومودة علاقاته، يقتصد في الإطراء، أما عن الأضواء فهو عنها بعيد كل البعد ولا يقيم لها وزناً. وكنت قد نشرت عنه على صفحات هذه الجريدة (العدد 9137 في 4 - 10 - 1997م) مقالاً موسّعاً عنه بعنوان»عندما يختبئ الشعر خلف الدبلوماسية».