«ولكن أين المشروع السياسي في برنامج التحول الوطني؟ لماذا أغفلته رؤية السعودية 2030؟» يسألني صحفيون ومذيعون عرب وأجانب. أجبت بأن خطة الإصلاح السياسي والإداري مستمرة منذ عقود، ولكن على نهج متأنٍ حكيم، يتوافق مع طبيعة المجتمع السعودي وتطوره الطبيعي وتركيبته التوافقية بين حضره وباديته، شبابه وشيوخه، رجاله ونسائه، تجّاره ومهنييه، بكافة أطيافهم وتياراتهم الثقافية والفكرية. السعودية تماثل سفينة ركاب كبرى، مجال المناورة وتحويل المسار ليست بسهولة الحركة لمركب صغير. والتحولات الثقافية والمجتمعية فيه تحتاج إلى عقود وأجيال لاستيعابها، ولا يمكن فرضها بجرة قلم. ورأينا كيف وقعت الأنظمة العربية في أتون «الربيع العربي»، لأنها انجرفت مع تيار التحديث المعلبة والمستوردة، واستجابت لضغوط الأجنبي الجاهل أو المتجاهل للسياق الحضاري العربي، ولم تراع طبيعة مجتمعاتها وميلها إلى التدين والمحافظة، وتركيبتها القبلية والأسرية. فيما سلمت وازدهرت الأنظمة الملكية المحافظة والمتواصلة مع شعوبها والمستوعبة لآليات تفاعله ونموه وحراكه الفكري. والحكم السعودي رشيد، وفي رشده وحكمته واحتوائه الأبوي لرعيته يكمن سر استمراره ثلاثة قرون، زالت خلالها إمبراطوريات وظهرت أخرى، وتغيرت الجيوسياسية الإقليمية والدولية إلى حد الاختلاف والانقطاع التام عما سبقها. وعليه فقد كان التطور الإداري السعودي مواكباً للتطور الثقافي والمجتمعي، بما يمثل نقلة لا صدمة، واستمرارية لا فجوة. حيث راعى ولاة الأمر أن يكون مركب التطور كسفينة نوح، تشمل الجميع. والمتابع للنقلات الإدارية المتوالية في تفعيل دور الشباب والمرأة في إدارة شئون الدولة والأعمال والمجتمع، يلحظ التسارع في السنوات الأخيرة بشكل يواكب رتم التطور المجتمعي. وفي عام واحد فقط منذ تولي الملك سلمان للحكم، مرت البلاد بأربع عواصف كبرى، أولها كانت العاصفة الإدارية، التي شملت الجهاز التنفيذي، وهيكل الحكومة، وأسلوب الإدارة. وكانت من أبرز معطياتها إنشاء المجلسين السياسي والأمني برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن نايف، والمجلس الاقتصادي التنموي برئاسة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ثم جاءت عاصفة الحزم العسكرية، فنقلت المملكة إلى مدار القوى الإقليمية الكبرى، وحدّت من التدخلات الأجنبية في شئونها، وبنت سياجاً دفاعياً وأمنياً صلباً ضد الإرهاب والطموحات الإيرانية، وشكلت تحالفات غير مسبوقة عربية وإسلامية ودولية. وواكبت هاتين العاصفتين عاصفة سياسية ودبلوماسية مذهلة، جمعت العالمين العربي والإسلامي، والمجتمع الأممي بمؤسساته المختلفة في تأييد وتفويض للإدارة السعودية لملفات المنطقة الساخنة. وتوجت هذه العاصفة بإجماع الأمة الإسلامية في قمة إسطنبول الشهر الماضي على إدانة إيران وعملائها لتدخلاتهم في شئون جيرانهم وأنشطتهم الإرهابية والتخريبية والإجرامية. وكانت آخر إنجازات الدبلوماسية السعودية انعقاد أربع قمم خلال يومين في بيت العرب، الرياض، بحضور زعماء العالم والمنطقة. واليوم نشهد عاصفة اقتصادية تؤذن بنقلة تاريخية كبرى. وتأتي مكملة لعواصف التحول الوطني السابقة، وقائدة لقاطرة البلاد إلى مستقبل يتجاوز ظاهرة الإدمان على النفط كمصدر أساسي للثروة والتنمية، ومقياس للرخاء والرفاهية، وبديل للإنتاج المتنوع والاستثمار المجدي. ولأن المال عصب الحياة، فإن التحولات الجذرية في الخطة تشمل وتراعي المنظومة المجتمعية، والتركيبة السكانية، والموارد البشرية بما تحقق لها من تأهيل علمي ومهني وثقافي. ولذا كان التركيز على الجوانب الثقافية والتعليمية والصحية والرياضية والترفيهية بنفس القدر الذي نالته الجوانب الاقتصادية والاستثمارية. ونلحظ ذلك في الخطاب السهل الممتنع الذي قدم وشرح الخطة للمواطن بمستوياته الفكرية والتعليمية والعمرية المختلفة. اختتمت بطمأنة السائلين بأن من وضع الرؤية السعودية 2030 والمسئولين عن إدارة وتنفيذ برنامج التحول الوطني درسوا أدق التفاصيل وأعلنوا حقائقها وأرقامها بدقة وشفافية عالية، والأسابيع القادمة ستشهد المزيد من الكشف والإفصاح للبرامج وخطط العمل، بما يعزز ثقة المواطن والمقيم والمستثمر والمجتمع الدولي في جدية المشروع ومنهجيته العلمية واستيعابه الكامل لبيئته، وبما يؤكد واقعيته ومنطقيته وجدواه.