يكتب المؤلفون والمفكرون دائماً عن ذكريات الماضي، وغالباً نقرأ عما كتبه الآخرون من ماضي ذكرياتهم. قلت لكم في هذه الزاوية من قبل إنني في أثناء زياراتي لمعرض الرياض للكتاب وقفت في بيسان للنشر أترقب وأتطلع إلى كتب وعناوين جديدة، حينها أشار أهل بيسان إلى كتاب (ذكريات المستقبل) للدكتور حرب الهرفي، تصفحته سريعاً ووجدت على الغلاف الأخير (قالوا عن الكتاب) وإذ الغذامي والتركي يجتمعان، فقلت: لا مناص. عندما بدأت بتقليب سيرة الدكتور حرب أعادتني الذاكرة للوراء متذكراً تفاصيل سيرة (ما لم تقله الوظيفة) التي سطرها الأستاذ منصور الخريجي، وهنا لا أنسى أنني أعرتها إلى أحدهم - لا أتذكره الآن - ولم يعدها ولعله يقرأ هذه الحروف ويعيدها إلى أخيه أو يقدم بديلاً عنها، وأتذكر أيضاً أنني فقدت كذلك الجزء الخامس من ذكريات علي الطنطاوي إلى هذا اليوم. أعود إلى ذكريات المستقبل حتى لا أكون مثل الطنطاوي - وليتني مثله - عندما يطرق موضوعات جميلة ومتعددة في آن واحد. يقول حرب - وهو في اعتقادي بحر رحب - في مقدمته «لربما يستغرب القارئ من تسمية ذكرياتي هذه باسم ذكريات المستقبل، والمعلوم أن المستقبل في علم الغيب ولكني عندما قررت كتابة كتابي هذا عن ذكريات حياتي، بعد إلحاح من أبنائي وأصدقائي، بدأت أستعرض حياتي وما مر بي فشعرت وكأني أشاهد شريطاً سينمائياً عرضت فيه مراحل حياتي من آخرها لأولها ورأيت فيها الماضي والمستقبل بكل أحداثه. فكأني رأيت المستقبل من خلال ذلك الشريط السينمائي. بل شعرت وكأنني أقف على رأس جبل في غاية الارتفاع ونظرت إلى الوراء فرأيت الأحداث بتسلسلها من آخرها». وأنا أقول: آه على جمال اللغة والأسلوب وعلى قسوة الماضي وتجلُّد الماضين؛ حيث الكفاح في طلب العلم وتحصيل الرزق. في اعتقادي أن الدكتور حرب قد حارب في بحر من المعاناة، وتذوق مرارات الانتقال من بلد إلى آخر ليصل إلى ما وصل إليه. الاستغراق في تفاصيل السيرة يجعلك لا تستطيع أن تفيها حقها إذا أردت أن تصفها، لتطلع القارئ على كنوزها الرائعة للطفل الصغير ومعاناته، والشاب الطموح وتطلعاته، والدارس النهم وتجاربه، والطبيب المغترب ولوعته، لكن أجمل وصف عن هذه السيرة هو ما قاله الأديب إبراهيم التركي «ومن هنا يجيء تميز هذه السيرة الذاتية المثيرة والمؤثرة التي كتبها صاحبها بمداد كفاحه ونجاحه وانطلاقه وتراجعه وفرحه وترحه وعزمه وحزمه وبداياته المتعسرة ومنعطفاتها الصعبة والمتيسرة وارتحالاته بين الخيمة والقرية والمدينة والتعليم البدائي والرسمي والحديث وتنقله في أرض الله طلباً للعلم بين الأردن ومصر والعراق وأميركا وداخل ولاياتها وبين مؤسساتها الطبية واستثماراته الخاصة وعمله بالحكومي ومارافق ذلك من كد وجهد وألم وأمل وفقد ووجد وحياة شظف ورغد وركض واسترخاء. إنه مجموعة كتب لا كتاب يحكي عن الأمس بلغة الغد فتمتزج الجغرافيا بالتأريخ ويتآزر وعي مفاهيم الدين مع دراسة الظاهرة الاجتماعية وتنتثر المعلومات الطبية والعامة، فيشعر القارئ بدفء الصحراء وقسوتها وحنان الأم وخوفها وصرامة الأب وحبه وقسوة المعلم ولينه وقرب الغريب وبعد القريب وإيحاءات المنافي والفيافي والرياض والغياض والعطاء والوفاء والالتزام والاعتدال والتنوير والمحافظة والانتماء للوطن وحب الآخر. إن كتاب طبيب من قلب البادية: ذكريات المستقبل للدكتور حرب بن عطا الهرفي البلوي يستحق الاحتفاء قراءةً وتبصراً حيث الضعف يلد القوة والعجز يخلق الإرادة والتحديات تعزز الطموحات عبر حكايات عفوية مباشرة يقرأها الكبير والصغير والعالم والمتعلم والجد والحفيد فيجد فيها الجميع متعةً ذاتية وإضافةً معرفية، وهو ما يجعلها قابلةً للرواية والتناقل كما للتمثُّل والاحتذاء». أيها القراء الكرام، لم يسطع صاحبكم أن يزيد عن هذا، ولعل هذا يزيدكم شوقاً ولهفةً لقراءة هذه السيرة. * السيرة مسيرة.