معجم الذات :(«روح النصّ»، «والروح» هنا من أمر الشاعر) د. فاروق موسى الصوت مرتبط بحاسة السمع، كما أن المرئي مرتبط بحاسة النظر، والمشموم مرتبط بحاسة الرائحة، وهلم جراً... وفي قصيدة (ما رجعته الأصداء.. ولم يقله الصوت) لسعود بن سليمان اليوسف التي نشرتها الجزيرة الثقافية في 22/2/1437ه، كان للصوت حضور مختلف، وسأتخذ من هذا الحضور المختلف مدخلاً لقراءتي النقدية للقصيدة، ومجالاً لتحليلها. «إليها حين مدّت ظل السؤال، وتوارت فيَّ حروراً.. وإليَّ حين هيّأتُ الصدى فماد المدى على صراط الانتظار ألفافاً.. كانت هذه هي العبارة التي وطّأ بها اليوسف قصيدته.. فحينما تخترق الذات الواعية أزمنة التلقي وأزمنة الكتابة والأزمنة النفسية الكثّة، تتجاوزها لذاتها وللمتلقي في آن واحد، من خلال التوغل في جزيئات النص، وإنعاش روح الحرف على اختلاف دلالة النبر الصوتي والبصري معًا في إطار لا يحتاج معه إلى مزيد إنعام نظر.. مشهد الاختراق بدا واضحًا عبر الآتي: ثلاثية وثنائيات عبر حواجز نصية جغرافية في ثلاثية متمكنة في تفاصيل الذات: الصوائت والصوامت والأصداء، ثلاث حفريات مرسومة على خريطة زمان ومكان، علو وانخفاض، مرتهنة بحروف تقطنها الحوافز السمعية المساهمة في وحدة الترابط في زوايا ذلك الهرم الدلالي البارز: (الصوت والصمت والصدى) حيث الصدى نداء صوتي لرجع صمت المكان وخلوه، فكأنما هو استجابة اللا حيّ لذلك الحيّ، تلك الدلالات ثلاثية الأبعاد قائمة على أمكنة وأزمنة، أصوات وأصداء، وطيّ ونشر متأهبَيْن...في ابتداء بلا انتهاء تنقلك إلى حيز الصورة المنظمة بأريحية رحبة عبر تراسل الحواس المتقن. حينما تكون الحفريات متجسدة في مشهد أرواح من روح الذات المبدعة التي ركبت نداءاتها أمام خريطة من الثنائيات التي تجمع بين أضداد تجسد صورة تكوينه ومثوله جماليًا في وعي المتلقي الذي يقوم بدوره بإنتاج معناه عبر إقامة شبكة من فضائيات متحاورة تصب في ذاكرته من خلال مشهد مركب من ثنائيات بارزة؛ سكون وضجيج، وصوامت وصوائت، تحمل قيمًا تعبيرية متناوبة بين السرعة والبطء، «صباحي.. ليليَ»،»إصباحي وإمسائي»، «معراجي وإسرائي»،...أرواح ممتدة عبر مساحات الزمان والمكان، مرة في اليابس ومرة في الماء، ومرة ساكنة ومرة حركية؛ روح متوهجة متأججة، وروح متلقية صاغية، وروح صمت تختلط بهن ... صوت استدعاء يائيِّ من أمام ياءات - متكلم ومخاطب - متواليات ومتقاربات، ياء ذات صفات قرينة قريبة تحجز المشاعر داخل الذات فتنعتق وتنطلق على هيئة تدفقات عاطفية تلامس صفاتها الرخوة القابلة للتطويل والمدّية والمط، وحرف متنفس كافٍ للانعتاق من زفرات الوجع والوجد التي تكشف عن تناغم إطار ذلك المتنفس اليائيّ اللصيق بين الأنا والآخر، وبين وضوح عزلة نفسية من نداء بلا إجابة إلا رجع صداه الموحش، في انتقاء لفظي رصين «أصدائي، جهاتي، وأوقاتي، وأنحائي»، حين يكون الحديث مبنيًا على حدود تلك الذات فهو حديث متسع فسيح ممتد لا أُطر له، لا تمنعه مفاوز الحواجز ارتقاءً وشموخًا يكون حينها البوح عالي الدلالة في حدود سماوية بعيدة «معراجي وإسرائي»، وأرضية قريبة، «كوخيَ النائي، زورقي، شراعي ومجدافي ومينائي»، وحدود انتمائية مترامية في أرجاء الذات «لكِ انتمائي، نسبي، أجدادي وآبائي، فؤادي، صَمتي، كلّيَ كلّيْ، بعضي»، وحدود وقتية شكلية، «صباحي العذبِ، ليلي، إصباحي، إمسائي، فراشاتي، أندائي، أوصافي، أسمائي»، وحدود طلبية، «فرتّبيني.. أجهلني، وعلّمينيَ ، فلتعزفي، مُدّي، زوّدي، اصبغي». صوت وثبات والتفاتات نص محتفل بوثبات والتفاتات بصرية في علاقة وطيدة بين النص والصورة باستخدام آليات الإنصات البصري، ساهمت هذه العلاقة ببث روح الحياة في نص الذات الواعية؛ وثبة ذاتية ثم وثبة لتحوير المشهد بدون ملالة، ثم عود على بدء بوثبة لحديث متدفق، واستعطاف بتفاوت مستوى الصوت بين ارتفاع وانخفاض، ووثبات متنوعة؛ أمر فنداء فوصف مسهب متدفق مجسد مجسم يتخلله شوق هادئ النبرة، تثيره العاطفة تارةً، وتخبو به الحلول الطللية الأنيقة تارةً أخرى باسترجاع أدوات الذكرى لإثارة الحنين مستهلة تلك الأدوات بالابتداءات الطلبية التشويقية - نداءات واستفهامات - تدفع المتلقي لمتابعة المشهد المنطوي في لوحة من الصمت وأصداء نداءات متأوهة في سباسب تجاوزت حدود الخريطة الضيقة مع اتساع روح الأصوات ووحشة الأصداء في رجع الصدى، والتحام منعرجات اللوى بمنعرجات المدى فمنعرجات الهوى، كل ذلك في ساحة احتماء وأفق اكتشاف وتنقيب لجيولوجيا النص المنعكسة على مرآة الذات تبوح عليها بأسرها، في منعرجات ككاغد تعاريج تقرأه الذات وتلقي مفاتيح أسراره في صحراء سهلة الالتقاط. أنعم - إن شئت -: في منعرجات اللوى: تستقطب ذهنيتك بوصلة متحركة حين تجد تلك الذات تبوح بتيهها عالية الصدى: «تاهت جهاتي، وأوقاتي، وأنحائي»، متزاحمة متدافعة علواً وهبوطًا مشوقًا حينما تعبر على شرف إسراء ومعراج؛ فأي امتداد عند «قوافل الشوق معراجي وإسرائي» بعد هذا وذاك؟!، أمّا حين تكون الذات متداخلة بين الجزيئات والكليات في محفل من محافل الانتماءات التي لا تتجزأ (كوخ وشرفة)، «لشرفتك الغرّاء.. وُلدَتْ في كوخيَ النائي»، (بحر وزورق)، «برئت من زورقي يا بحر»، (ميناء وشراع ومجداف)، «ومن شراعي ومجدافي ومينائي»، ثم يابس من «صحراء صامتة»، وماء «من قلبك المائي»، والصورة ليست مجرد مناخات وتضاريس تشكّلت أمام الذات وتلقفتها ذهنية المتلقي فحسب، بل هي انعكاس روحي شعوري، «كصوت التهاني حقلنا فِتَناً، تمد للأرض إشعاعات أفياء»، ثمّ هي امتزاج وتناغم بين المائية واليابسة «إذْ رتّل الغيمُ غيثاً روحُ صحراء!»، فالأبعاد وقتئذٍ مترفة بالمطالع، فاخرة بأطلسيتها الجغرافية الحيّة، حتى في جماداتها ذات الأرواح.. لم تكن في عزلة عما حولها، بل كن يأنسن بشجاها وصداها. ثم قف على منعرجات المدى: التي تختصر الحياة بدقائقها الدقيقة المتثاقلة على الذات المبدعة؛ «وأوقاتي»، «ليالٍ..»، «اصبغي الليل من إشراق..»يَجنَّ ليل الدجى»، «وصار مثلَ صباحي العذبِ ليليَ.. إصباحي وإمسائي»..، مساحات زمنية تجدد الرؤية في الخطاب الشاعري لدى الوعي حيث التصوير الفني المعتمد على لغة شعرية منتقاة بشكل دقيق وانزياحات متجلية في ليل مكفهر بصمته وصداه ونبرات نداءاته, ساهمت تلك اللغة في تكسير البنية وأفق انتظار المتلقي أمام حدود تضاريس الزمن التي تضيق وتتسع بحسب ما يعتري الذات من خلجات. ثم اعرج - وأطل وقوفًا - على منعرجات الهوى: صوتيات متنفسة «اطوِ سؤالك.. ما هيّأتُ أصدائي، يا منتهى المنتهى في العشق.. قد بدأت قوافل الشوق، تسمو لشرفتك الغرّاء تحملني بلهفةٍ وُلدَتْ، يا بحر فتنتها، لكِ انتمائي، قد صار حبُّك أجدادي وآبائي، العذبِ.. أنْ صار طيفكِ، فرتّبيني.. لقد أصبحت أجهلني.. وعلّمينيَ أوصافي وأسمائي، هنا فؤادي الذي.. من قلبك، مُدّي.. التهاني.. فِتَناً، وأندائي، من ذاك الحنان، روحك عطريةَ الصوت.. صغتِ الأحاديث؟، أحلى ليالٍ كلُّها سمَرٌ، أُرضي غرورك (بين الحاء والباء!)، رشفتُ صوتك.. كم من نشوةٍ سألَتْ، صَمتي لصوتك إجلال.. وكم خشعت.. إذْ رتّل الغيمُ غيثاً روحُ صحراء!، إيقاع ضحكتك السحريُّ..أصبحتُ (كلّيَ كلّيْ) بعضَ إصغاء!»؛ معجم هذا المنعرج تشكل منتشرًا في رُقيةٍ صوتيةٍ بعيدةٍ ترتفع قليلًا على أجنحة التخييل المتجاوز للأسقف الدلالية المباشرة بعيدة عن ضباب الرمزية، في لحظات تعبير عن التعاضد بين اللون والحرف، فمائيات وجمادات تستحيل إلى آيات لغوية مرئية ناطقة بكل التداعيات المستحضرة عبر تقنية الاسترجاع المتتابعة المتواترة تصنعها كبرياء الروح المتوهجة ذات النص البصري الحركي، وأهم من ذلك ما تنتجه هذه الذات من تجسيد صورة الموقف وتكوينه ومثوله جماليًا في وعي المتلقي الذي يقوم بدوره بإنتاج معناه عبر إقامة شبكة من فضائيات متحاورة تصب في مشهد مركب، تستعير الذات - من خلاله - هذه التقنية لتكثيف لغتها وتركيب أدواتها في مزج وتماثل مدهشين بين تركيبات المكان ومدارات الزمان، يصنعان جدلية التلوين الشعري والتكوين الشكلي بسماكة ملحوظة. صوت العتبات (عنوان واستهلال وقفلة) العنوان صوت بذاته لا ينفك عن النص بل هو هامش لمتن يختصر كل ما أطلقته الذات من أصداء عادت بما لم يتقن الصوت إطلاقه ويحسن صياغته إذا كان للصدى صوته الأشد والأجرأ (ما رجعته الأصداء.. ولم يقله الصوت)؛ إذ إن غالب الأحاسيس يترجمها السكون في حين يعجز عنها الضجيج ومنهما وبهما التأجيج. وُفّقت الذات في إطلاق ألفاظ ومفردات هذه العتبة غير المستقلة عن النص ولا المنقطعة عنه؛ صوت وفراغات وأصداء تُرجمت فراغاتها عبر أدوات النص وعادت من حيث بدأت بجاذبية مقنعة وانتماء بعيد عن الرمزية والغموض، فالمشاعر بينه وبين النص وبين الذات والمتلقي متعاضدة لا تنفك. ومن منطلق عتبة العنوان تتقن الذات الاتكاء على عتبة الاستشراف التأمليّ القصير الذي يجمع بين دفتي الإيجاز وكثافة مضمون النص في تشكل متسق ونمو متناسق وختام مُهيَّأ للبدء بلا توقف في تناوب جذاب بين ثلاثية الذات والمفردات والمتلقي، جاء ذلك في عتبة الاستهلال النصيّ الذي أعقب العتبة الرئيس. «إليها حين مدّت ظل السؤال، وتوارت فيَّ حروراً.. وإليَّ حين هيّأتُ الصدى فماد المدى على صراط الانتظار ألفافاً..» ولنتجاوز النص بما فيه من أدوات ودلالات للوقوف على قفلة متمكنة ممتلئة عبرت عنها الذات.. إيقاع ضحكتك السحريُّ.. منذ شدا أصبحتُ كلّيَ كلّيْ بعضَ إصغاء! هذه القفلة ازدحم فيها معجم الذات الشعري إذ لا يقتصر على المفردة وتكرارها، بل يتجاوز ذلك إلى الصوتِ والصمت ثمَّ الصورة والرؤية والمعنى والفكرة العامة للنص، تتشكّل معها جميع معطيات النص بخصوصية الكل المتتابع في روح الذات بالتفاتة متئدة (كلّيَ كلّيْ بعض إصغائي).. وأمام تتابع هذا الكل.. هل اكتفت الذات من بعضها الآتي..؟! قفلة مفتوحة جعلت كل انتقاء دلاليٍّ في النص (عُقْر النص). * * * حينما تنطلق هذه التشكيلة التضاريسية فإنها تحمل في طيّها زفرة منتشية منتشرة جذابة تفضحها ثراء ثلاثيات وثنائيات وياءات ووثبات والتفاتات وعتبات وُلِدن من ذات وتسللن إلى ذوات تُتابعُ ثيمة تنامي الحدث وتراقبه. هامش: «كل الوحدات اللغوية بدءًا من الصوت وانتهاءً بالتركيب لها مدلولات تساهم في حمل الفكرة المراد التعبير عنها». «علم الدلالة والمعاجم» موسى حامد خليفة سارة بنت سليمان الدريهم - ماجستير البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي (متخصصة في النقد)