أشد من وطأة الفقر على الجسد وَجَعُ «اليُتْم»، وضعت اللغة كليهما على بُعدِ ثلاثة أحرف من مرمى «الحياة»، تركيبتهما الثلاثية تختلف في أن الأول مفتوح من البداية على مصراعيه للخارج ترقباً للغة التأويلات والتخمينات ولحظات الانتظار والبهجة لما قد يأتي فجأة أو يهطل من السماء، و«اليُتْمُ» مضموم من أوله إلى الداخل على المفقود من أوراق الحنان وصفحات الأبوة والأمومة والدموع وخُطى الأمل المتنقلة بثقل لا يشبهه أحد. يعرفان الدرب ذاته والطريق لما يُعْرَف شكلياً «بالحاجة» أحدهما ينتظر قوت يومه ليكشف عن ابتسامة تكفي لشهر، وثانيهما يترقب لمحة أو ضمة من جسد لن يعود ورائحة لا تتكرر، أو لم يأتِ الزمن بما يقترب منها، إن حدث والتقيا في أحضان إنسان فلن يختلف من بعده الجمع الغفير على حصر ورثة، أو قطعة أرض. دَرْبُ الجريحين دَرْبُ صمت طويل وإن خذله ترديد «آه» متقطعة مع كل لمحة مقارنة بغيره، قَتَلَ الأول انقطاع الصوت وكسر الشوك في يد الثاني هطول الدموع. الفَقْر لا يبكي، هو يتخذ الصوت منقذاً موقتاً لطريق طويل وزحام أطول، متى ما رأى حزمة أمل أو قشة نجاة يَعْلَقُ ويَتَعلَق بها، اليُتْم خليله «الدمع» ولم يَصْحَبه يوماً بعصا الطاعة، جمعتهما الظروف كرأسين في الألم، لصالحهما بالتساوي، يرتسم في الوجه خطان متوازيان بالطول بوصفهما ملامح لآثار الحياة وتجاعيدها وقسماتها ومناظر القسوة البالغة التعقيد، على رغم أنف الزمن، وخطان آخران متوازيان بالطول يَعْبُر بهما الدمع خطه السري اليومي، حين تستدرجه الذاكرة لشيء فات لن يعود، أو نغمة صوت ألفتها الآذان، على رغم أن المسافة الوقتية قصيرة جدًا، أو ربما لم يكن لها حضور إلا ارتداد الرائحة والاسم من أفواه القريبين. يُعْرَف الفقر من الثوب الرث وبحة الصوت ونداءات المساء الخجولة وجبال الصمود التي يتدثر بها الهيكل الإنساني في النهار، ويُكْتَشَفُ اليُتْم من الصمت الخجول، والالتفاتة لمرور مفردة حب، والخضوع لكل ما له رابط بحنان وعطف ورحمة، الفقر ينتظر أي وجه وأي يد وكل شيء حتى ولو من الغريب البعيد، يأمل في سبات مريح لليلة واحدة تنعم به عناصره وأطرافه، واليتم يجامل كل ما يعترض طريقه من الوجوه والأيدي، يحترم قدراتهم وروحهم، يقبل جراحهم وإن كانت تقهر جراحه، يطمئنهم بأنه إلى الأعلى، والحقيقة تقول إنه يأتي في افتتاح الذكرى الدائمة مع العمر الطويل لتأبين الأغلى من الحبيب القريب. نُحْضِرُ إلى الفقر «الرِفْق» ونعرف منه بدقة ما «الفَرْق» بين وجهين وحالين، وننبش مع اليتم أرضه «الميتة» حتى وإن ظهرت في ثوب أنيق وروح حالمة، بين الجريحين توافق تام ونقاط التقاط في خريطة القهر والعنف، والقلة والعجز، والقسوة والعيب، لم يجبرا أن يرتديا الثوب ذاته أو تلك الملابس، ولكن لنصل إلى الدرجة العليا في التفريق بين «وجع اليتم ووطأة الفقر» نحتاج لكمية إنسانية مستيقظة، وقدر أكبر من التواضع، وسعرات حرارية متواصلة لجدية وجودة النية والحركة. [email protected]