ألقى صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني كلمة ضافية في حفل وزارة المياه والكهرباء لتدشين حملة التوعية والترشيد التي تبنتها الوزارة مع بعض جهات القطاع الخاص لترشيد المياه، والتي تهدف إلى توفير ما نسبته 30٪ في المائة من المياه المهدرة، لتغطية الاحتياجات المستقبلية التي سوف تصل في العام 2020م إلى أكثر من (3,25) مليارات متر مكعب حسب دراسات موثوقة لابد من مواجهتها بخطة استراتيجية فاعلة في بلد تشح فيه المياه إلى حد الندرة، ويزداد استهلاك الفرد عن المعدلات الاستهلاكية في العالم، وتعتبر فاتورة الماء هي الأرخص بين دول العالم وهي ثلاث حقائق لا تسير في صالح مستقبل توفير الماء مستقبلاً. ولعل افتتاح الأمير عبدالله بن عبدالعزيز للحملة بكلمة هامة للمواطنين يعني اهتمام الدولة الجاد، في فتح حساب الماء، بعد ان بدت بوادر الحاجة المستقبلية إلى المياه، في وقت يهدر ما يقرب من ثلث الكمية المنتجة بدون فائدة تذكر. وتاريخياً، كان الماء، ولا زال هاجس المملكة العربية السعودية منذ توحيدها، ففي عهد المغفور له الملك عبدالعزيز، بدأت قصة الاهتمام بالمياه عندما أمر جلالته بتطوير العين العزيزية في مكة، وتوطين البادية حول آبار الماء القليلة المتوفرة في الصحراء، أو التي حفرت لهذا الغرض، وهي خطوات أولى لبدء مرحلة الاستقرار الحضري الذي نعيشه هذه الأيام. وبذلت الحكومة في الخمسينيات جهوداً كبيرة لتطوير وتأهيل الموارد الجوفية الضحلة في مختلف المناطق، وتنمية مصادر المياه، عن طريق مشاريع مبكرة للسدود لاحتجاز مياه الأمطار لتغذية الآبار في وقت الجفاف. مع توسع القدرات المادية للمملكة في أواخر الستينيات، وأوائل السبعينات الميلادية اعتمدت المملكة مشاريع كبرى تقوم على منتجات التكنولوجيا للاستفادة القصوى من موارد المياه، ونقلها إلى المنازل. مع التطور الحضري ونمو المدن كان لابد من الاتجاه للبحر، حيث بدأ التأسيس لأكبر مصانع لتحلية مياه البحر في العالم، حتى وصل مقدار المياه المنتجة والمعالجة من كافة المصادر (5,7) ملايين متر مكعب يومياً، وكان معظم المياه المنتجة يأتي من البحر (المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة) بعد تراجع منسوب المياه الجوفية بسبب توسع الاستخدام المدني والزراعي. بدأ امداد هذه المحطات لكل أجزاء المملكة الداخلية تقريباً عبر شبكة ضخمة تعتبر هي الأخرى من أوسع شبكات ضخ ونقل المياه في بلد صحراوي متسع تتبخر فيه قطرة الماء قبل ان تقع على الأرض. هذه الجهود التي تمت خلال أكثر من خمسين عاماً لم تعد قادرة على الصمود إزاء مستجدات النمو في عدد السكان، والتوسع باستهلاك المياه للأغراض الزراعية، والصناعية. من هنا بدأت الدولة ترسم سياسة الماء بتوجس من المستقبل، خصوصاً ان الماء أزمة دولية وليست محلية فقط، فالمستقبل يحتاج لجهود مكثفة لمسايرة التطور. ارتفع أمر الاهتمام بالمشكلة إلى ان يكون هاجساً في أعلى مراكز القرار في المملكة العربية السعودية، فصدر التشكيل الوزاري في العام الماضي بحقيبة وزارية جديدة هي (وزارة للمياه والكهرباء)، وبدأت هذه الوزارة جهودها بحملات مكاشفة شفافة حول الوضع المائي بالمملكة، ومواجهة الرأي العام بالحقائق غير المتفائلة في حال بقاء الموارد على ما هي عليه مع عدم ترشيد الاستهلاك الجائر للماء، وجاء في توجيهات معالي وزير المياه والكهرباء، ان تبدأ حملة مكثفة وطويلة الأجل للتوعية بأهمية المياه وصعوبة الحصول عليها متبنية سياسة شفافة لجعل المواطنين شركاء في قرار المياه فبدأت حملات التوعية، والترشيد بشعار كبير الدلالة يقول (القرار بيدك) والضمنية لهذا الشعار واضحة، فإما ان نوفر الماء الثروة الناضبة، أو نواجه العطش ونفاد الموارد. ولتدشين حملة ضخمة للتوعية بهذا الحجم من الاهتمام ألقى نائب خادم الحرمين الشريفين كلمة لتدشين الحملة الوطنية للتوعية والترشيد لاستهلاك المياه التي يتبناها القطاع الخاص مع وزارة المياه والكهرباء. وكانت كلمة نائب الملك قوية في توجهها إلى الجانب الديني أولاً بعدم الاسراف مستشهداً سموه بآيات كريمة من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية تجعل الترشيد أمراً دينياً يرقى إلى الواجب قال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} واستشهد سموه بحديث ابن مسعود (من الوضوء اسراف ولو كنت على نهر جار). وهكذا دق سمو الأمير عبدالله ناقوس الخطر قائلاً: (إن المملكة العربية السعودية، - حرسها الله - هي أشد البلاد شحا في المياه بين بلاد العالم والأكثر استهلاكاً له حسب المقاييس العالمية). المشكلة التي قد تبتعد عن ذهن المحلل ان الحملة تواجه رأياً عاماً سابقاً حول وفرة الماء، والصورة الذهنية التي رسختها بعض البحوث العلمية المتعجلة وأذاعتها وسائل الإعلام مع أنها خاطئة تقول: ان المملكة تنام على بحر من المياه الحلوة الجيدة، وهي نظرية فقدت مصداقيتها في ضوء حقيقة ان المملكة تواجه فعلاً مستقبلاً صعباً في مجال المياه، في حال عدم المحافظة على الموارد الحالية، وهو ما أكده صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في خطابه بوضوح. والمصادر الجوفية التي هي الأقرب والأقل تكلفة قياساً للتحلية، هي في واقع الأمر مخزون مائي احتجزته تشكيلات جيولوجية عبر العصور، ونسبة الامداد السنوي له من الأمطار قليلة جداً، ولا تتساوى مع مستوى الاستهلاك. وكما رأينا تاريخياً فقد كانت المملكة تعاني من شح كبير بالماء لا يكفي الاستهلاك الإنساني في التجمعات السكانية القليلة في زمن الملك عبدالعزيز وما قبله، لكن التكنولوجيا الحديثة مكنت من رفع المياه من المستويات الأعمق، وتوسعت القطاعات الزراعية في استنزاف الماء، مما أضر بهذه المصادر ضرراً بالغاً، وجعل المملكة منذ عشر سنوات تعيد هيكلة القطاع الزراعي في معونات إنتاج القمح، وتحد من زراعته إلى ما يسد الحاجة المحلية فقط مع التركيز على زراعات تقتصد في استهلاك المياه. كل هذه التدابير لم تكن كافية فالمستقبل ينذر بعجز شديد إلى الماء قياساً إلى المعدلات الحالية وينذر بالخطر. وقد أشار سمو الأمير عبدالله في كلمته إلى موضوع آخر، وهو ان تكلفة إنتاج المياه من مصادرها وتكلفة نقلها ورفعها إلى ارتفاعات شاهقة، هي في الواقع تكلفة باهظة تفوق تكاليف إنتاج وتوزيع المياه في العالم يقول سموه «إضافة إلى ما سلف ذكره من الندرة في المصادر، والارتفاع في التكاليف فإن معدل الاستهلاك اليومي للفرد في المملكة يقع ضمن أعلى المعدلات في العالم، حتى وان أدخلنا في الاعتبار بلدانا غنية بمصادرها المائية المتجددة من أنهار وبحيرات». المشكلة كما أوضحها سموه بشفافية مشكلة متفاقمة من عدة عوامل هي باختصار تكاليف الإنتاج، وتكاليف النقل، وفقر الموارد ثم المعدل العالي للاستهلاك، وهو حقيقة ما يوجب دق ناقوس خطر العطش بقوة إذا لم تتخذ إجراءات سريعة لحل المشكلة. ولأن تنمية المصادر الجوفية المتضائلة ليست الحل، فإن الاحتفاظ بالمعدل الكبير الحالي لتحلية مياه البحر هو على ما يبدو الحل الأفضل، لكنه مكلف في الإنتاج ومكلف في النقل، ولذلك فتوفير الماء والاقتصاد في الاستهلاك هو أقرب الحلول الممكنة خصوصاً أنه يضيف قرابة نصف الكمية المصنعة في الهدر بين الشبكة المحلية والمنازل، حيث بلغ هدر الشبكة الحالية ما نسبته (20- إلى 30٪) وبلغ مستوى الهدر في الاستخدام ما نسبته (40 إلى 50٪) أي بإجمالي هدر يقدر بنسبة 30٪ من الكمية المنتجة ولو وفرت خلال الثلاث سنوات القادمة بنسبة تصاعدية حسب حلول التوعية وغيرها مثل أدوات الترشيد، وتسعير استهلاك القطاعات الكبير لكان بالإمكان الاستغناء عن محطات جديدة للتحلية، ولكانت المشاريع الحالية وهي الأكبر من نوعها كافية لسنين قادمة. سمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في كلمته الهامة رفع التطلعات بأمل ان نكون مثلاً للعالم في التوفير يقول سموه «وهذا الواقع يوجب علينا جميعاً المحافظة الشديدة، والحرص التام على هذه الثروة الغالية، وان نكون مثلاً أعلى للعالم كله في الاقتصاد باستخدامها (المياه)» وهنا سموه يضع الحل في التوفير، وليس في السلوك الخاطئ الذي استمر سنوات.