مازلنا عندما نسمع فيروز تغني «يامرسال المراسيل» نعيش حالة اللهفة المصاحبة لتبادل الرسائل، كما نشعر أيضا بشعور المجروح المتأمل حين تغني «كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا»، ولم يصل لها من مكاتيبها أي رد، رغم أن هذه الحالة أصبحت من الخيال القديم، فلم تعد هناك رسائل، تحمل معها خط كاتبها، ورائحة المكان، وتنتقل من يد لأخرى حتى تصل لصاحبها الذي ينتظرها بشوق. فهل اندثر أدب الرسائل؟ يعتبر أدب الرسائل أحد أهم أنواع السرديات، إذ إنه يحمل بوحًا خاصًا، وسجالا بين شخصين، يقول كافكا في إحدى رسائله لميلينا "كتابة الرسائل .. تعني أن تعري نفسكَ أمام الأشباح، و هو شيء لطالما كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر". فهل كان أدب الرسائل، بالفعل، تعري بلا قيود، أو ضوابط؟ في رسالة كافكا لوالده، التي كانت مفتاحًا لشخصية كافكا، وقراءة لأساليب كتابته، كان فعلا كما قال .. عرى حقيقة مشاعره تجاه والده، فبدأ رسالته قائلا:" الوالد الاعز، سألتني مرة، مؤخراً لماذا أدعي أنني أخاف منك، ولم أعرف كالعادة أن أجيبك بشيء من طرف بسبب هذا الخوف نفسه الذي أستشعره أمامك، ومن طرف لأن تعليل هذا الخوف يتطلب تفاصيل أكثر مما أستطيع أن أجمّعه الى حد ما في الكلام. وعندما أحاول هنا أن أجيبك كتابة، فلن يكون الأمر إلا ناقصا كل النقص، وذلك لأن الخوف ونتائجه يعيقني ازاءك في الكتابة أيضًا، ولأن حجم الموضوع يتجاوز ذاكرتي وعقلي كثيراً". لكن ماذا عن البوح في الرسائل العربية؟ هل تخضع لخصوصية الثقافة العربية المحافظة؟ فإننا نرى أن الرسائل التي تبادلها الشاعران محمود درويش، وسميح القاسم، لم تكن بذلك البوح المطلق، كأنهما يدركان قيمة وحساسية أن يكتبا بلا قيود. لذلك يكتب محمود درويش لسميح القاسم «لن نخدع أحدا، وسنقلب التقاليد، فمن عادة الناشرين ، أو الورثة أن يجمعوا الرسائل المكتوبة في كتاب ، ولكننا هنا نصمم الكتاب، ونضع له الرسائل، لعبتنا مكشوفة، سنعلق سيرتنا على السطوح، أو نواري الخجل من كتابة المذكرات بكتابتها في رسائل. انتبه جيدا لن تستطيع قول ما لا يقال ، فنحن مطالبان بالعبوس ، بالصدق والإخفاء، ومراقبتهما في آن..مطالبان بألا نشوه صورة نمطية أعدتها لنا المخيلة العامة ، ومطالبان بإجراء تعديل ما على طبيعة أدب الرسائل، أبرزه استبعاد وجوه الشهود، وجمالية الضعف الإنساني.." وفي هذه الرسالة يتضح قلق محمود درويش من القيود التي تخلقها مخيلة العامة، ويسعى للحفاظ عليها. ويبدو هذا النموذج من الرسائل حذرًا وساعيًا لإخفاء جانبًا ما. ولعل أهم الرسائل، رسائل ديستوفيسكي، سواء التي كان يكتبها لزوجته، أو الرسائل التي كتبها قبل الحكم عليه بالإعدام وبعد أن نجى من هذا الحكم. فبالتأكيد أن البوح في هذه المحنة النفسية سيكون مختلفًا عن أية رسالة. وحينما نتحدث عن الرسائل بين الأدباء، لا بد أن نذكر رسائل غسان كنفاني لغادة السمان، ورسائل مي زيادة وجبران خليل جبران التي استمرت لعشرين عامًا دون أن يلتقيا، وكذلك رسائل الرافعي لمي زيادة. ومن الرسائل العاطفية الملهمة رسائل بول ايلوار لغالا، فقد كتب لها مرة " أشعر أنني وحيد، نمت باكرًا لأحلم بك". والآن، هل مازلنا ننتظر رسائل جديدة؟أم هل سرقت التكنولوجيا منا جزءا مهما من الأدب؟ هذه الحياة الاستهلاكية السريعة، هل تمحو دفء الرسائل وحميميتها، كيف لنا أن نحصل على رسائل الأديب بعد موته، كيف سنتلصص على بريده الإلكتروني. وهل سيحتوي بريده على رسائل دافئة؟ كيف سيبدو أثر الرسائل وهي متشابهة الخط بلا رائحة ولا أثر للزمن. وهل تلاشت أيضا مشاعر انتظار الرسالة، وهي حاملة نسيم البحر، وعبق المكان؟