الإنسان غير الواثق من نفسه ورؤاه وقناعاته، عادة ما يخاف الحوار، ويتحاشى الجدل، ويتهرب من مواجهة الرأي الآخر؛ لذلك تجده غالباً ما ينحى نحو إسكات الآخر إما باتهامه بالعمالة للأجنبي، ويدعو إلى تكميم أفواه من يختلف معهم، أو يُطلق تهم التجهيل تارة، وربما التفسيق أو التكفير تارة أخرى إذا تعلق الأمر بشأن ديني. وهو بذلك يُعبر دون أن يعي عن ضعفه وهشاشة حجته وقلة حيلته تجاه قناعاته التي يتبناها ويدافع عنها؛ وغالبا ما تكون هذه القناعات ورثها عن ماضيه الذي كان مجيداً، أو تبناها على اعتبار أنها جزء من هويته الثقافية والاجتماعية، التي لو تخلى عنها فإنه سيشعر بشعور اللامنتمي، وهذا الشعور يجعله في عزلة خطيرة وأزمة هوية تجاه مجتمعه المتمسك بعرى الماضي، لذلك تجده يتشبث بالماضي محاولاً بعث الحياة فيه من جديد، ويفسر فشله في إحيائه بنظرية (المؤامرة) من قبل مناوئيه، كي يبرر هزيمته في واقعه المزري المرير؛ ومن يقرأ تاريخ الأمم المتفوقة حضاريا لا بُدّ وأن يلحظ إذا كان موضوعياً أن التقدم والرقي والتطور يستند أولا على قاعدة فلسفية من القناعات الفردية، ثم الاجتماعية، التي استقاها من الأمم الأخرى المتفوقة والمعاصرة له، هذه الفلسفة يتبناها الأفراد أولا ثم تنتشر وتتجذر مع الزمن لتشكل في نهاية المطاف رؤى أغلبية أفراد المجتمع، لينهض ويتقدم ويكون له مكانا حضاريا تحت الشمس؛ وفي المقابل فإن أية أمة تستسلم لواقعها، ولموروثاتها المتخلفة، وترفض التغيير، وتُصر على الراهن المستمد من الماضي الموروث، وتتحاشى الاستفادة ومحاكاة الأمم المتحضرة، فسوف تبقى قطعاً في ذيل ركب الأمم حضارياً، أمة مستهلكة لا منتجة، تأكل ما لا تنتج، وتكتسي بما لا تنسج، وتتداوى بما لا تبتكره، وتركب ما لا تصنع، تجتر نخبها أفكاراً أكل عليها الدهر وشرب. قانون التطور والتقدم الإنساني اليوم كقاطرة تسير بسرعة ولا تنتظر أحداً، مَن ركبها بقي على قيد الحياة، ومن مرّت به ولم يلتحق بها، ويقبل أن يعيش ويتعايش معها بشروط وقوانين ركابها، فلن يستطع أن يلحق بها مستقبلاً على قدميه، وسيجد نفسه في النهاية يقتاته الجوع والعزلة والعطش في صحراء يحفها السراب والوهم من كل جانب حتى النفوق والفناء كما تفنى وتندثر الكائنات المعرضة للانقراض لعدم قدرتها على التأقلم مع التغيرات البيئية ومواكبتها. شعوب الشرق الأقصى - مثلا - أدركت هذه الحقيقة الوجودية، وتشربت بها نخبها وشعوبها، فحذت حذو الغرب المنتصر، واتّبعتهم، وجعلت من فلسفاتهم وتجاربهم لها سبيلا ونهجا؛ وها هي اليوم تنافس الأمم الغربية التي تعلمت منها مناهج التفوق الإنساني، واتخذت من نظرياتهم ومعاييرهم البحثية لها مرشدا في طريق الرقي والتقدم والحضارة، وبذلك استطاعت أن تخلع عنها ثياب التخلف الماضوية البالية، وترتدي من الألبسة الغربية المعاصرة أجدّها وأزهاها؛ فأسعدت إنسانها، وانتشلته من وحول ومستنقعات التخلف. أما شعوب بني يعرب فبقيت في مكانها، تجلس القرفصاء، تنتظر (المخلص) الذي سيأتي يوما من تراثها الموروث، ومن بين الركام، يتجاذبها تياران، جعلاها كالمكوك تدور في مكانها ولا تبرحه، التيار الأول التيار العروبي القومي الفارغ، والتيار الثاني التيار المتأسلم المسيّس، فالعروبة لم تقدم لها حلا، أما التأسلم السياسي فلم يحقق لها إلا التذابح والتطاحن ومزيدا من التخلف، وشلالات دماء لا تتوقف هنا إلا وتثور هناك. اليابان قصفتها الولاياتالمتحدة بالقنبلة الذرية، فرفعت راية الاستسلام معترفة بهزيمتها؛ غير أن تلك الهزيمة النكراء تعاملت مع نتائجها اليابان تعاملا عقلانيا، فلم تتمسك بتراثها الموروث لتبحث فيه عن (مخلص) يمد لهم يد العون، وينقذها من هزيمتها الكارثية، وإنما تبنت ثقافة المنتصر، وتعلمت منه، واتخذت من ثقافته خارطة طريق لتنميتها، وما هي إلا عقود حتى وثب المارد الياباني من تحت ركام الهزيمة، ينافس الغرب اقتصاديا وصناعيا في ما برع فيه وتميّز، وعاد الإنسان الياباني مرفها ومتمتعا بتفوقه، يعيش في بحبوحة من العيش والأمن والطمأنينة، إلى درجة تجاوز فيها الأمريكي نفسه، إذا كان معيار الرخاء دخل الفرد. إنها العقلانية والموضوعية التي أنقذتهم من هزيمتهم، وليس التشبث بالعواطف الفارغة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، كما هم بنو يعرب الأماجد. إلى اللقاء