(دخَلت إلى المقهى، وقف محيياً لها بابتسامة. وجدته قد طلب مسبقاً كأسين من العصير. أي أنه (متهيئ) تماماً لهذه الجلسة. صباحاً، أخبرها عبر الهاتف أنه يود رؤيتها لأمر هام. اتفقا على أن يلتقيا أثناء استراحة الغداء في هذا المقهى، الذي يقع في منتصف الطريق بين مقرّي عمليهما. ابتسمت تسأله: ماذا هناك؟! بادلها الابتسام وبسلاسة بدأ يحكي وهو يصف بإسهاب ويزبد و(علامات الجدية) مرسومة على وجهه. كانت تنظر إليه بتمعُّن والطاولة بينهما تمنع يديها من أن تتحسس مسام وجهه وخطوط ثنايا عنقه وهي تتشكل أثناء حديثه، وهدنة صمت سريعة بعد الانتهاء من إيصال كل معلومة، ليبدأ بفقرة جديدة، ليضيف معلومة تأكيدية للسابقة أو جديدة تعزز فكرة كل القصة التي أتى ليخبرها بها؛ أي أنّ ذات الكم المعلوماتي يجب أن يصل من خلال (التكرار) ليؤكد روايته. ظل يواصل سرده وهي تتأمله كيف يشد على شفتيه حينما ينطق بعض الحروف والكلمات وعينيه خالية من أي بريق و(زائغة البصر). تتقافز بؤبؤتيه في عدة اتجاهات وكأنّ نظرته حشرة طائرة تبحث عن بقايا طعام بين أشلاء علاقة كانت بينهما. على الرغم من سمات جديته وسرعته في الكلام، بتصرف غير إرادي كان متأنياً في احتساء العصير أمامه وحركة يديه في نظافة نظارته، هذا ما وضعته في مخيلتها بين قوسين (تكلف عصبي) واضح. استخدم في حديثه (نحن وجميعنا والناس ومعظمنا) بإسهاب، متجنباً تماماً أن يستخدم ولو لمرة واحدة ضمير المتكلم (أنا)، أي لم يشر إلى ذاته المجردة في أي أمر. انتبهت إلى أن قصته قد حملت عدة (اتهامات) لعدة أشخاص ذكرهم في روايته لا لشيء سوى إمعان في تثبيت فكرة القصة الأساسية. بعد آخر جملة احتسى آخر جرعة من كوب العصير، ومن ثم أسند ظهره لحافة كرسيِّه، منتظراً رد فعلها في ابتسامة واثقة. نظرت لكوب عصيرها الممتلئ والذي لا ترغب في احتسائه، ثم نظرت إلى عينيه في صمت. متأكدة من أنه يود أن يسمع رأيها فيما قال. من خبرتها في التعامل معه، لم تجد سبباً موضوعياً لتصديق روايته، والتي امتلأت بتزييف حقائق ومعلومات مغلوطة على حد علمها. عدا علامات الكذب التي بدت عليه بلغة الجسد، وهي الكلمات التي بين قوسين في هذه القصة. نهضت، أخذت حقيبتها وتركته وعلامات استفهامه وتعجُّبه تركض خلفها دون جدوى، فلا يسمع منها شيئاً). - انتهى - ملاحظة: هذه القصة ابتكرت لهذا المقال عينه. عزيزي القارئ، كما تعلم، الكذب يأتي بقوالب عدة إما بتزييف الحقائق جزئياً، أو كلياً، أو خلق روايات وأحداث جديدة، بنيّة وقصد الخداع لتحقيق هدف معيّن، وقد يكون مادياً ونفسياً واجتماعياً وهو عكس الصدق، والكذب فعل محرم في أغلب الأديان. الكذب قد يكون بسيطاً ولكن إذا تطور ولازم الفرد، فعند ذاك يكون الفرد مصاباً بالكذب المرضي. وقد يقترن بعدد من الجرائم مثل الغش والنصب والسرقة. وقد يقترن ببعض المهن أو الأدوار مثل الدبلوماسية أو الحرب النفسية الإعلامية. الطفل عندما يبلغ من العمر نحو أربع سنوات ونصف، يبدأ لديه القدرة على الكذب المقنع. قبل هذا، يكون للطفل وجهة نظر واحدة خاصة به وغير قادر على استخدام الخيال وحبك الأحداث ووضعها في قالب لغوي متماسك. بتاريخ 25 أكتوبر 2015 طالعتنا الأخبار عبر الصحف والتلفزة والمواقع الإلكترونية بهذا العنوان (بعد 15 عاماً .. بلير يعتذر عن حرب العراق) قالت صحيفة الإندبندنت البريطانية، إن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير اعتذر عن حرب العراق في مقابلة مع شبكة «سي إن إن» الإخبارية الأمريكية، مضيفة «لكم انتظرنا اعتذاراً عن تلك الحرب منذ وقت طويل»، مشيرة إلى أنه أقر بصورة علنية للمرة الأولى أنّ حرب العراق ساهمت في ظهور داعش. وأوردت الصحيفة تسلسلاً زمنياً للأحداث قبل وأثناء وبعد حرب العراق، مشيرة إلى قوله إنه يشعر بالأسف لعدم التخطيط لتبعات الصراع والمعلومات الاستخباراتية الخاطئة التي استخدمت لتبريره. حسب الديانة المسيحية والتي تحرم الكذب وليس هناك استثناءات تبيحه فيها بأية حال، ما فعله طوني بلير وهو أحد معتنقيها، هو الاعتراف Confession بالخطيئة ويكون بذلك قد تخطى الشعور بالذنب إلى مرحلة عملية للتطهير الكامل منها، ومن ثم يرتجي المغفرة. كما نعلم، الدين الإسلامي يحرم الكذب ومع ذلك يبيحه في ثلاثة أمور: الكذب للإصلاح بين المتخاصمين، الكذب على الأعداء في الحروب والكذب لإرضاء الزوجة؛ وهناك أدلة مثبتة لذلك. لنعد للقصة المدرجة أول المقال هنا، فلتكن عزيزي القارئ، في موضع الرجل تارة ومن ثم في موضع المرأة. كيف ترى الصورة من على الطرفين؟ فلتعد صياغة القصة بالشكل الذي ترتئيه ويناسب طريقة تفكيرك ويتوافق مع ثقافتك. مرة أخرى أعدها بصيغة لا تمت لبيئتك بصلة ودون ملاحظاتك عن الفرق الذي وجدته. المسافة بين النص المقروء وعقلية المتلقي يمكن اختصارها حين نأخذ بمعطيات البيئة التي تجمع كليهما. حين يأتي النص السردي بتسلسل مشاهده وأحداثه موافقاً لتنبؤاتك أثناء القراءة، يعني أنك لم تصل إلى حد الدهشة، التي تغري للوصول إلى نهاية النص وتحقق الإمتاع. الخوف من كسر النمطية في الكتابة وكيفية عرض الفكرة ومواضيع السرد، خاصة فيما يتعلق بالمسلّمات الثقافية المتوارثة لمجتمعاتنا، على الأغلب سيجعل المنتوج الأدبي المحلي من آخر اهتمامات الأجيال المواكبة لعصر السرعة والعولمة والثورة المعلوماتية. لا يعني أبداً هنا أننا مع أو ضد أي طرف، ولكن من الفطنة الأخذ بالأسباب لإيجاد مخارج لمعضلة أننا أمة اقرأ التي أضحت لا تقرأ.