تتخذ الإيديولوجيا الشاملة (مهما كانت ومهما أطلقت من دعاوى إيديولوجية ومن نصوص تدل على تقديرها للعلم وأنه لا يوجد تناقض بينها وبين العلم) موقفاً متوقعاً بتحريم العلم ومطاردة العلماء إن عاجلاً أو آجلاً هذا في العلوم الطبيعية أما في العلوم الإنسانية فهي إما تحرم علوماً ومناهج كلياً أو جزئياً أو تربط بين تلك العلوم والمناهج وبين إيديولوجيات معادية أو منافسة مما يجعلها في النهاية ترفض تلك العلوم كلياً أو جزئياً مهما بدت حيادية وعلمية وبعيدة عن المؤثر الإيديولوجي. بل إن نمطاً أو مستوى من مستوى العلاقات تقوم فيه الإيديولوجيا بإنتاج شبيه العلم وليس هو بعلم من خلال استعمال مناهج العلم والنقد والمختلفة في تثبيت الإيديولوجيا أو استعمالها كخط إنتاج إيديولوجي. إن مستويات تلك العلاقات يمكن فقط دراساتها من خلال علمين أحدهما فلسفي وهو الإبستمولوجيا والآخر لساني وهو تحليل الخطاب وتحليل الخطاب النقدي لفصل الشوائب الإيديولوجية وفصل العناصر وفصل الممارسة وتوضيح النتائج. ولا يمكن لنا في الحال هذه إغفال إبستمولوجيا العلم والصراع الإيديولوجي الشديد على تكونات العلم بين وضع النظرية البحت وبين وضع الإيديولوجية البحت وهذا هو موضوع الإبستمولوجيا الأول إذا نظرنا للإبستمولوجيا كنقد للنظريات العلمية، إن إبستمولوجيا العلوم عند الغرب تتتلقى منحنياتها مع منحنيات الإيديولوجيا حيناً وتتباعدان حيناً آخر، ولكن ذلك كله داخل إدلوجات الغرب وداخل علومه، مما يوجد عند الإدلوجات الأخرى خوفاً من الذوبان في الإيدلوجية الغربية وفي الإبستمولوجيا الغربية، لأجل ذلك نرى حرصاً مبالغاً فيه على رفض نتائج العلوم الغربية بما فيها العلوم الطبيعية في بعض الأحيان، وحرصاً مبالغاً يظهر فيه الصراع في ساحات مصطلحات العلوم تارة وفي أعمال المفكرين الذين يدرسون التراث تارة أخرى، ويشير إلى ذلك محمد الجزار حيث يقول: «لا معرفة برئية من الإيديولوجيا كائناً ما كان نوع هذه المعرفة، ويبدأ الفعل الإيديولوجي فيها من مفاتيحها، أعني مصطلحاتها فالمصطلحات مفاتيح العلوم كما يقال.. والتداول البريء لهذه المفاتيح كفيل بأن يوحد الغايات المعرفية، وهيمنة هوية الآخر من خلال التطويع الإيديولوجي للذات هذا الذي يتم من خلال الالتباس الإيديولوجي بالمعرفي حتى لا فرق بين المحددات الثقافية للاثنين».. ( محمد الجزار : 2007، ص 48 )، ويرى الجزار أن المصطلحات ليست مفاتيح العلوم فحسب بل هي خوارزميات الثقافة ومن ثم الإيديولوجيا ؛ لأنها لا تؤدي وظيفتها بفعل مقابلاتها المفهومية فقط لأن هذا مظهر سطحي لفاعليتها لا يمثل غير عنصر واحد من عناصر عديدة هي: المصطلح ومفهومه داخل نسق علاقاته في حقله المعرفي النوعي، والخطاب الذي ينتمي إليه الحقل المعرفي النوعي، وعلاقته بسواه من الحقول المعرفية وبالسياق الخارجي، الثقافة التي تضم كافة الحقول المعرفية، ويحاول الجزار مقاربة المصطلح النقدي والأدبي الذي يراه حاكماً حكماً ثابتاً لمنهجه في البداية من حيث وظيفته، ولكن علاقة المصطلح بثقافته هي العلاقة الوحيدة التي تتمتع بصفة الجدلية، فيتعدى المصطلح منهجه وخطابه الأدبي ليدخل ملكوت الثقافة أي النسيج المعرفي للمجتمع.. ومن ثم تصبح الفاعلية الحقيقية للمصطلح كامنة في قوته الثقافية التي تجعل المصطلح النقدي قادراً على الانتقال بين النظريات والمناهج دونما حس (مفهومي) وإن رهيفاً بالاغتراب.. ومركز تصورات الجزار عن المصطلح النقدي يتمثل في كونه إديولوجيا مقنعة لا تسرب مقولاتها في حقل اشتغاله بقدر ما تسلطها على حقل وموضوع هذا الاشتغال؛ ومن ثم فإن تحليلاً يستهدف بيان أسباب القوة المفهومية للمصطلح لا يجب أن يقوم داخل منهجه أو خطاب هذا المنهج فتلك أقنعة، وإنما داخل ثقافته ولعلاقته بها.. ولأن تعريف الثقافة تعريفاً غربياً يفترض الاعتراف بثقافة الآخر غير الغربي وقد جرى ذلك ولكن في إطار البدائية؛ فتكون أي ثقافة بدائية عندما تقارن بمستوى ثقافة الغرب كما يشير أشلي مونتاغيو ضمن كتاب البدائية، وبما أن العلم واصطلاحاته اجتماعية نوعية فلا يمكن أن يهمل الأساس السوسيو - إيديولوجي في المصطلح ولا يمكن أن نتغاضي عن الحمولات التكوينية للثقافة، بل حتى المفهومية التي تتضمن أن الآخر بدائي الثقافة أو حتى أستطيع أن أقول مع بعض الذين لاحظوا التناول الغربي لبعض منتجات الثقافة والإبداع لدينا أنه تناول إنثروبولوجي وليس تناولاً علمياً أو تناولاً على الأقل إنسانياً ندياً. ويرى الجزار أنه يمكن تحديد ثلاثة عناصر مفهومية للثقافة على ضوء التأكيد على العلاقة الفاعلة والمزدوجة الاتجاه من الإيديولوجيا إلى الوقائع الاجتماعية والعكس وهي: 1- ينطوي مفهوم الثقافة على بعد تراثي، وذلك بفضل عملية التعليم الاجتماعي التي بها تتناقل المعارف والخبرات والتقاليد من جيل إلى آخر، 2- لا ينحصر مفهوم الثقافة في المنجزات الذهنية (الإيديولوجيا) (للثقافة ثلاثة مستويات: إيديولوجي: أي المعاني والقيم والمعايير، وسلوكي وهو تحول الجانب الإيديولوجي إلى شيء اجتماعي موضوعي، ومادي وهو يمثل الوسائل الأخرى لإظهار الجانب الإيديولوجي وجعله شيئاً اجتماعياً بحسب إيكه هولتكراس) بل يتعدى إلى المستويين الآخرين، 3- ثمة تسوير اجتماعي لدلالة مفهوم الثقافة يجعل كلا من المجتمع وثقافته يتبادلان صناعة الهوية الثقافية، 4 - يؤسس استخدام لفظ إيديولوجيا في الإحالة إلى المنجزات الذهنية لقيام بنية من الانحيازات التي متى وضعت في السياق الغربي الكولونيالي أمكننا أن نرى أية آلية لنفي الآخر يتضمنها مفهوم الثقافة الغربي، وبما أن الخطاب الأدبي ومناهج نقده ومصطلحاتها تقع ضمن الدائرة الإيديولوجية فلا هي من السلوكيات ولا من الوسائل المادية وإنما الاثنان يترجمانها إلى وقائع اجتماعية، ولأن من تعريفات الثقافة القدرة على استعمال الرموز.. والرموز في حالة النقد الأدبي هي المصطلحات فمن ثم فإن المصطلحات أكثر عناصر المنهج تحملاً بإيديولوجيا المجتمع المنتج لها، ويكون تداولها ببراءة يعني التورط في محمولاتها الإيديولوجية ونوعا من الاستلاب.. ويتفاوت الخطاب النقدي ضمن الخطاب الأدبي العام في تحمل الإيديولوجيا خفاء وتجلياً من المنهج إلى الإجراء إلى المصطلح الذي يبلغ أقصى درجات الخفاء الإيديولوجي، ومن ثم أقصى درجات القوة الإيديولوجية فإيديولوجيا ثقافة ما تخفف أفعال حضورها في أدواتها الواضحة، وتضاعف هذه الأفعال في الأدوات المستترة خلف وظيفيتها، ويتمتع المصطلح النقدي بخفاء علاقته بالإيديولوجيا للأسباب التالية: أن المصطلح يظهر كمعادل صوتي لمفهومه لا أكثر وكأنه مفارق لزمكانية إنتاجه ومجتمعها. وهو يوهم أن مرجعيته الوحيدة قائمة في منهجه لا تتعداه كما أنه يسور مفهومه بوظيفيته بشكل يخفي علاقته بثقافته ومن ثم إيديولوجيتها ثم إن المصطلح تنشؤه آلية تجزيئية في حين الإيديولوجيا لا تتجلى إلا بالكل ويقول الجزار بعد ذلك: «وعلى أساس ما سبق نزعم أن المصطلح النقدي (وكل المصطلحات بتميز ملائم لنوعيتها) يلعب، من خلال فاعليته المفهومية دوراً شديد الخفاء بين الثقافات، إنه بوابة عبور ذاته المنتجة له وثقافتها ومجتمعها وحتى رؤيتها المستعلية والمتعالية على الآخر. أما الحل لهذه المعضلة التي تجعل من كل علم إيديولوجيا ومن كل مصطلح مصطلحاً مؤدلجا فيراها الجزار تتمثل في ناحيتين: الأولى: الارتكاز إلى ثوابت الهوية وتفعيل دور متغيراتها إذ إن الهوية تحتوي مبدأين هما الثبات ويندرج تحته كافة المكونات المسؤولة عن خصائص الهوية في ذاتها وتمايزاتها عما سواها، والآخر التغير وتندرج تحته كافة المكونات المسؤولة عن الحوار مع الآخر والتفاعل الثقافي معه والإفادة بالمفيد منه. وبناء على ذلك يمكن إقامة حوار كفء مع الآخر مهما كانت إيديولوجيته، ومهما كانت رؤيته للذات، وحوار الهوية مع المصطلح النقدي الغربي يجب أن يخترق المستويات التي ترتكز إليها مكونات مفهومه، أعني: المنهج والخطاب والإيديولوجيا. الثانية: أن ثقافتنا العربية الإسلامية يحركها مبدأ هام نجده في الفقه وهو أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وكذا في كل شيء يريدون أن امتناع الكل لا يعطي الجزء حكم الامتناع. ولذا فإن المصطلح النقدي لا يؤخذ كله ولا يترك كله، والفيصل في كل من الترك والأخذ هو لحوار الهوية مع منتج الآخر وفق طبيعة مكوناتها...(انظر: محمد فكري الجزار: سيميوطيقيا التشبيه من البلاغة إلى الشعرية، القاهرة، 2007)