من خمسة آلاف دولار أجبر ستيف جوبز عائلته وأصدقاءه على دفعها عند تأسيسه مع رفيق دربه ستيف وازنياك شركة آبل التي تحولت إلى أعلى الشركات بالتاريخ من ناحية القيمة السوقية، إلى شيك بمائة ألف دولار كتبه آندي بيكتو لشيم بعد جلسة عشاء مع سيرجي بين ولاري بيج أعلن به عن ولادة عملاق كوكب الأرض قوقل، مروراً ببيترثيل الذي دفع نصف مليون دولار لفيسبوك الوليدة، ووصولاً إلى يوتيوب وسناب شات وواتس آب الذين استفادوا من دفعات تمويلية مكنتهم من التواجد على الخريطة العالمية. تعددت تلك الأساليب التمويلية ولكن النتيجة كانت واحدة بتحول تلك الشركات الصَّغيرة إلى إمبراطوريات ضخمة باتت تتحكم بسوق التكنولوجيا العالمي وفي حاضر ومستقبل التواصل البشري. ما دور التمويل الاستثماري في ولادة تلك الشركات؟ من هو المستثمر الملاك؟ ومن هو المستثمر المجازف؟ من هو المسؤول عن تضخم القيمة السوقية للشركات التكنولوجية لتتجاوز المليارات بخلال سنوات قليلة وبلا أي عوائد مالية تذكر؟ عند تأسيس أي مشروع أو شركة ناشئة، سواء كانت تكنولوجية أو لا، يذهب مؤسسوها أولاً إلى الأهل والأصدقاء بحثاً عن سلفة أو مساعدة مالية تمكنهم من دفع رسوم تأسيس الشركة الإدارية وربما بعض الرواتب البخسة لبضعة موظفين والتكاليف البسيطة في الشهور الأولى. يأتي هذا بعد شهور من العمل المبدئي على خلق المنتج الهدف وإطلاق نسخة تجريبية منه. لجأ الكثير من مؤسسي الشركات التكنولوجية الناشئة عبر التاريخ لأهلهم وأصدقائهم واتخذوا المرآب في منازلهم الخاصة مقراً ومكتباً ومصنعاً أولياً لشركاتهم. يمثل المرآب جزءاً مهماً في حياة المواطن الأمريكي، فلم تعد تلك الغرفة الصَّغيرة التي تقع خارج المنزل مجرد مهجع ليلي للسيارة بل مقر للمعدات والأدوات التي يستخدمها المواطن الأمريكي في إصلاح وتركيب جميع ما يخص منزله وسيارته. لهذا تأسست شركات كبيرة من ذلك المرآب وانطلقت منه للتحكم في مفاصل الاقتصاد العالمي. قبل ستيف جوبز الذي أسس شركة آبل في المرآب ب 37 سنة، أسس بيل هيوليت وديف باكرد شركة اتش بي في مرآب في العام 1939، وتبعهم تأسيس قوقل وأمازون في التسعينات الميلادية. لكن تلك الأموال البسيطة التي لا تزيد على بضعة آلاف من الدولارات وذلك المرأب الصَّغير لا يكفي لإنشاء إمبراطوريات تكنولوجية ضخمة كالتي نرى اليوم. وهنا يأتي دور ما يعرف ب «المستثمر الملاك» الذي لعب دوراً هائلاً في العشرين سنة الماضية وشكل ملامح الكثير من الشركات في وادي السيلكون. لماذا سمي هذا النوع من المستثمرين بالملاك؟ ببساطة لأنه يلعب دوراً خيراً ويحقق مطالب مؤسسي الشركات الناشئة، كما يعتقد الكثير من رواد الأعمال. في الغالب، يكون المستثمر الملاك عبارة عن شخص ثري تزيد ثروته على المليون دولار وينتمي لحقل الطب أو الهندسة أو المحاماة أو مجرد سليل عائلة ثرية وفي أفضل الحالات، يكون رائد أعمال سابق. يقوم هذا المستثمر الملاك بتقديم الدعم المالي للشركات الناشئة مقابل حصص سهمية أو سندات قابلة للتحويل في المشروع. ومن بعد نجاح الشركة الناشئة، يسترد أضعاف التمويل المالي الذي دفعه بعد بيع الشركة أو إعادة تقيمها السوقي أو في أفضل الحالات عرضها للاكتتاب العام. لا تتجاوز غالبية المبالغ التي يدفعها المستثمرون الملائكة خانة الخمسة أصفار وفي معظم الأحيان تنحسر القيمة التمويلية في مبلغ 50 ألف دولار. يلجأ مؤسسو الشركات الناشئة للمستثمرين الملائكة في بداية تأسيس شركاتهم أو بعد إطلاقها بأشهر قليلة للاستفادة من تمويل سريع يغذون به أعمال الشركة. بما أن غالبية المستثمرين الملائكة يعملون بشكل فردي ومستعدين لكتابة شيك بعد لقاء سريع على طاولة عشاء في حال اقتناعهم، يحلم راود المشروعات الناشئة دائماً في الحصول على رضاء ذلك الملاك المستثمر أو المستثمر الملاك. على الرغم من سرعة الحصول على تمويل من مستثمر ملاك تعد أسرع من بدائل التمويل الأخرى، إلا أن المستثمرين الملائكة يتأنون كثيراً في تقديم المساهمة المالية ويحاولون اقتناص المشروعات الناشئة التي تقدم حلولا تكنولوجية ثورية أو فريدة من نوعها أو تلك الشركات التي يتوقع أن تحوز على قاعدة مستخدمين كبيرة أو في أضعف الحالات تلك التي تملك استراتيجية جاهزة للخروج عبر بيعها سريعاً أو ترخيص أو بيع تقنياتها. يعلم المستثمرون الملائكة جيداً أن غالبية المشروعات التي يستثمرون بها ستؤول للفشل، ولهذا يكون اعتمادهم دائماً على نجاح 1 من كل 10 مشروعات ليعوضوا به خسائرهم في المشروعات الأخرى ويحصلون على عائد استثمار عال يزيدون به من حصة التمويلات المستقبلية لرفع معدلات الربح. يلعب المستثمرون الملائكة دوراً هائلاً في التأثير على المشروعات التكنولوجية في وادي السيلكون فتقريباً كل الشركات التكنولوجية التي تم تأسيسها في العشرين سنة الأخيرة بدأت بتمويل ملائكي. ولا غرابة في تحكم وادي السيليكون وأمريكا بسوق التكنولوجيا العالمية في جميع مشتقاته ومجالاته عند معرفة وجود 300 ألف مستثمر ملاك في أمريكا فقط استثمروا ما يزيد على 24 مليار دولار في 73 ألف مشروع ناشئ في عام 2014 فقط وقاموا بتوليد نصف مليون فرصة عمل. من هو الأحمق الذي يفكر في محاولة منافسة أمريكا في مجال التكنولوجيا وهذا الأرقام تصرف فقط على المشروعات الناشئة؟ رأس المال المجازف أو المخاطر هو النوع الثاني في تمويل المشروعات الريادية الناشئة. يتصف هذا النوع الاستثماري بالمجازفة العالية المدروسة بشكل متأن ويمتلك فرص نجاح عالية. المستثمر الملاك عبارة عن شخص أو مجموعة أشخاص يعملون بشكل شبه رسمي، لكن المستثمر المجازف هو عبارة عن مؤسسات مالية تعمل بشكل احترافي، حيث تقوم أولاً بجمع الأموال من مستثمرين ورجال أعمال ومن ثم استثمارها غالباً في الشركات التي تخطت مرحلة التأسيس والتي بدأت التشغيل التجريبي أو الفعلي ويقوم المستثمر المجازف بضخ مبالغ عالية تبدأ من خانة الملايين من الدولارات. في نهاية العام 2009 حصل واتس آب على تمويل يقدر بربع مليون دولار من خمسة مستثمرين ملائكة، لكن في بداية 2011 حصل على تمويل يقدر ب 7 ملايين دولار من شركة سيكويا لتمويل المشروعات وهذا يمثل الفرق بين المستثمر الملاك والمجازف. الأول يستثمر مبالغ صغيرة في مشروعات ناشئة والأخير يستثمر مبالغ كبيرة في مشروعات شبه ناضجة. تقوم الشركات الناشئة بالبحث عن المستثمر الملاك بينما يبحث المستثمر المجازف عن الشركة الناشئة. حيث يفضل المستثمر المجازف اختيار الشركات الناشئة بنفسه للاستثمار فيها ويحصل ذلك بعد دراسة مستفيضة ومتابعة مستمرة تدوم شهور وأحياناً سنوات لمستويات الأداء الخاصة بالشركة المستهدفة. على الرغم من هذا البحث المتأني، إلا أن المبالغ العالية التي يستثمرها رأس المال المغامر والفترة الطويلة التي يستغرقها تحصيل عائد الاستثمار تؤدي إلى زيادة المخاطر التي تهدد المشروعات الريادية المستهدفة. لهذا، يكسب المستثمر المجازف ما يزيد على 80 في المئة من أرباحه من استثمارات لا يتجاوز مجموعها 20 في المئة. هذا يعني أن ما يزيد على 80 في المئة من الاستثمارات التي يمولها المستثمر المجازف تفشل في تحقيق أي أرباح أو تحقق ما لا يزيد نسبته على 20 في المئة من مجمل الأرباح. لذلك تشترط غالبية مؤسسات رأس المال المجازف دخول أحد أعضائها في مجلس إدارة الشركة المستثمر فيها وتؤثر كثيراً في القرارات الاستراتيجية للشركة، وكثير من تنفيذي الشركة الناشئة يتم تدريبهم عبر مؤسسات رأس المال المجازف. بسبب الخبرة التي تراكمت عبر السنين للمستثمر المجازف، يفضل الكثير من الشركات النامية الذهاب لهم للبحث عن التمويل وللاستفادة من الدروس التي اكتسبها المستثمر المجازف. إذن الاختلافات بين المستثمر الملاك والمجازف تتمثل في ثلاثة أشياء: المرحلة العمرية للشركة المستهدفة ومدى سهولة وصعوبة الإجراءات بين الاثنين وأخيرا التأثير والتدخل في علميات الشركة الناشئة. أما الشيء المشترك فيما بينهم فهو الاتفاق على أن الخسارة في مشروع ما لن يتم تعويضها أبداً، فالتمويل الاستثماري كان عبارة عن حصص سهمية أو سندات تتحول إلى أوراق بالية عند سقوط الشركة وخروجها من السوق. النوع الثالث من التمويل الاستثماري والذي يُعدُّ نوعا مستحدثا هو التمويل الجماعي الذي يعتمد على تمويلات من العامة تبدأ من واحد دولار وتديرها عدة مواقع على شبكة الإنترنت مثل: كيك، ستارتر، انديقوقو، فاندابل، ومايكروفينشر. بالرغم من بدء انتشار فكرة التمويل الجماعي مؤخراً (2008)، إلا أن إحصاءات أكدت أن الإنفاق في هذا المجال قد تجاوز 50 مليار دولار في عام 2015. ينقسم التمويل الجماعي إلى ثلاثة أنواع، التبرع المجاني والتمويل مقابل منتج والتمويل مقابل حصص سهمية. النوع الثاني يحدث عندما تعلن شركة ناشئة عن منتج جديد وتعرضه للبيع المسبق وتقوم بتحصيل الأموال ومن ثم تستخدمها في عملية التصنيع. مع العلم أن الشركة الناشئة التي حصلت على هذه الأموال من التمويل الجماعي لا تضمن حصولك على المنتج وإنما تضع الخطط وتحاول التطبيق. بالطبع فشلت شركات كثيرة حصلت على أموال استثمارية مقابل منتجات ولكنها خرجت من السوق ولم توصل تلك المنتجات إطلاقا للمتبرعين أو من يسمون ب «الأنصار». لذلك بدأ التركيز مؤخرا على التمويل مقابل حصص سهمية وان استمر الشراء المسبق لمنتجات الشركات الناشئة اعتماداً على تجارب ناجحة في هذا المجال أشهرها بالطبع شركة بيببل الأمريكية للساعات الذكية التي انطلقت من خلال موقع كيك ستارتر. ساعة بيببل الأمريكية حصلت على عدة تمويلات بلغت 20 مليون دولار بينما حصل طابعة الليزر ثري دي قلوفروق على 27 مليون دولار، واعتلى قائمة أعلى مبالغ التمويل الجماعي في التاريخ لعبة الفيديو ستار سيتيزن بتمويل خيالي اقترب من حاجز ال 100 مليون دولار. التمويلات الأخرى تنحصر ما بين التمويل البنكي والحكومي. التمويل البنكي عن طريق الاقتراض أو الرهن العقاري ويختلف عن الأنواع السابقة في التزام الشركة الناشئة ممثلة بملاكها (إذا كانت الشركة ذات ملكية محدودة) بالسداد حتى في حالة فشل الشركة أو خروجها من السوق، فالبنك لا يهمه إلا أن يقوم المدين بسداد القرض وإلا ستناله الملاحقة القضائية. أما آخر الأنواع التمويلية فهو الحكومي وهو خيار محدود جداً ويتمثل في حالات معينة عبر منح ومساعدات مالية ولكنها غالباً تركز على جوانب تعليمية وصحية وعسكرية. طبعاً في حالات خاصة، ربما تضع CIA (وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) عينها على مشروعك وتقوم بتمويله عن طريق ذراعها الاستثماري In - Q - Tel والتي تمول غالباً مشروعات تهتم بالحوسبة الكمومية وتحليل البيانات. ربما لم تسمع عن شركة كيهول التي مولتها CIA في وقت سابق ولكنك بالطبع قد سمعت عن أهم مشروعات كيهول الذي يعرف اليوم ب قوقل ايرث. التمويل الاستثماري يمر بعدة مراحل. تكون البداية بالتمويل الأولي أو ما يعرف بتمويل البذور الذي يقوم به غالباً الأهل أو الأصدقاء ولا يتجاوز المبلغ 50 ألف دولار وأحياناً يدخل بعض المستثمرين الملائكة في هذه المرحلة خاصة في حال المعرفة الشخصية المسبقة بين المستثمرين والرواد. المرحلة الثانية هي مرحلة بدء التشغيل والتي يمكن أن يساهم فيها بشكل رئيسي المستثمرون الملائكة ولا تتجاوز المليون دولار. يتم في هذه المرحلة تقسيم أسهم الشركة ويحصل المستثمرون الملائكة على نسبة لا تزيد على 15 في المئة، فيما يذهب المتبقي للمؤسسين والأهل والأصدقاء. المرحلة الثالثة هي المرحلة المبكرة والتي يحصل فيها أول تمويل كبير من قبل المستثمر المجازف فيما يعرف ب جولة «Series A» والتي تحصل الشركة فيه على تمويل ضخم يبدأ من مليون دولار وقد يصل لعشرات الملايين الدولارات مقابل حصة سهمية تتراوح بين 15 في المئة إلى 30 في المئة. تغادر الشركة في هذه المرحلة طور (شركة ناشئة) إلى (شركة نامية) وتحصل على تقييمها الأول أو ما يعرف بالقيمة السوقية التي يتم وضعها بناء على عملية معقدة جدا تعتمد على تقديرات وتحليلات عميقة تدرس وضع العوائد وقاعدة المستخدمين والتفرد التكنولوجي التي تقدمه الشركة المستهدفة وتضع بالحسبان أيضاً القيمة السوقية للشركات المنافسة وامتلاك الشركة استراتيجية محددة للخروج من السوق عبر احتمالية بيعها أو عرضها للاكتتاب العام. في المرحلة الرابعة (النمو) تحصل الشركة على تمويلات كبيرة تدخل خانة عشرات الملايين من الدولارات فيما يعرف بجولة «SeriesB». في المرحلة الرابعة من التمويل الاستثماري (التوسع) والذي تغادر الشركة فيه طور (شركة نامية) إلى (شركة ناضجة) وتحصل فيه على تمويل ضخم جدا قد يصل إلى مئات الملايين من الدولارات فيما يعرف بجولة «SeriesC». بعد هذه المراحل والجولات يُشرع الباب على مصراعيه حيث قد تصل قيمة التمويلات الجديدة لخانة المليار الدولار وتصل قيمة الشركة السوقية إلى عشرات المليارات من الدولارات. شركة أوبر لخدمة «التاكسي» حصلت في 2015 على تمويل بلغ 1.6 مليار وارتفعت فيه قيمتها السوقية إلى 62 مليار دولار. بسبب سياسة الباب المفتوح، تضخمت الشركات التكنولوجية في السنوات الأخيرة وتزايدت حملاتها التمويلية والتي رفعت بشكل طردي من قيمتها السوقية. كل سلسلة تمويل جديدة تؤدي إلى إعادة تقييم قيمة الشركة السوقية على الرغم من ان غالبية الشركات لا تدر أي عوائد تذكر. وكلما احتاجت الشركة إلى أموال لإدارة عملياتها التنموية والتوسعية، تلجأ إلى الحصول على تمويل جديد ويرتفع معها قيمتها السوقية في أمر غريب. على سبيل المثال، سناب شات حصل في 2015 على تمويل ضخم بلغ 500 مليون دولار عبر جولة «SeriesF» وارتفعت معه قيمته السوقية إلى 16 مليار دولار على الرغم من أن التطبيق سجل عوائد مخيبة بلغت 4 ملايين دولار في 2014 وقدرت إحصاءات غير رسمية وصول العوائد إلى 50 مليون دولار في 2015، لكن بسبب هذه النتائج المخيبة وعدم وجود مستقبل واضح للشركة بعد رفضها لاستحواذ ملياري من فيسبوك وعدم وجود مشترين اخرين بالسوق، انخفضت قيمة سناب شات السوقية إلى 12 مليار في نهاية العام المنصرم. هل نحن على أعتاب فقاعة إنترنت جديدة؟ ربما. لكن التفاصيل في مقالة قادمة. انما السؤال الذي سأترك إجابته لكم، أين المستثمرون الملائكة بالمملكة العربية السعودية وهل لرأس المال المجازف السعودي أي دور فعال في دعم المشروعات الريادية في البلد خصوصاً التكنولوجية منها؟ وختاماً، ما أخبار وادي السيليكون السعودي؟