قصيدة (وداع المتنبي لأبي شجاع, آخر ما قال المتنبي) هذه مقدمة كافية للتشويق للقصيدة؛ فكثيرا ما يخلد الناس للعظماء آخر المواقف وآخر الأقوال, قالها -على الأغلب- في أول شعبان عام 354ه, مودّعاً عضد الدولة قرب شيراز, ومتّجهاً إلى الكوفة, التي قُتل قبل وصوله إليها, أواخر شهر رمضان من العام نفسه, ولا يميزها فقط أنها الأخيرة, ولكنها قصيدة وداع, وداع شائك, مبطّنٍ بالتعريض -كما تقول الشروح-, قصيدةٌ على قلقٍ من التأويل كأنّ الخوف تحتها؛ فلا يمكن القطع بمقاصد الشاعر, ولا التوقف عند الأقوال التي اعترف بها, كان لديه -ولا شكّ- أقوال أخرى, قالها بلا ألفاظ صريحة, مثل كثير من قصائده, التي تعمد أبو الطيب أن يظل الناس يختصمون جرّاءها.. وهذه القراءة في التلقي والتأويل, تتأمل النصّ/البلّورة من جوانب عدّة, وترتكز على ثلاثة أسئلة: الأول: لماذا الشكّ في حقيقة الوداع؟ وتجيب عنه دعائم من الظروف المحيطة بالنص, ومن طبيعة المتنبي نفسه, ومن ظاهر مفردات النص, والثاني: هل هي من نمط الكافوريات التي يقلبها هجاء حال مغادرته؟ وبمقارنة بالكافوريات سيظهر اختلاف واتفاق بينهما. والثالث: ما أبرز نقاط التحوّل في دلالات النص بينه وبين عموم نصوص المتنبي؟ وتتمثّل هذه التحولات في رؤيته من خلال: ضعف الأهداف حدّ الاستسلام., وركود الشعر فلا أثر سيتركه, وانخفاض الفخر حتى كاد ينعدم. فالسؤال الأول: لماذا الشكّ في حقيقة الوداع؟! ألا يمكن أن يودّع حاكماً أغدق عليه هباتٍ لم يعطها له أحد من قبل؟ ممن أضاء الشك حول هذا الشيخ محمود شاكر في سِفره المنير: (المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا), معتمداً على القصص المحيطة, فللمتنبي مواقف مشهورة بالعداء بينه وبين وزراء عضد الدولة (الصاحب بن عباد وابن العميد), وإن لان للثاني, حتى قدّم له الدعوة إلى زيارة أبي شجاع في شيراز, ولكن المتنبي رفض وألحّ في طلب العودة إلى أهله, فكرروا الدعوة مصحوبة بالمزيد من الأماني والعطايا, فقبِل. ثم حين قدِم تحت ضغط الإغراءات أعلن قبل وصوله أنه لن يطيل البقاء وأنها رحلة قصيرة, وعند المغادرة رفض طلبهم بالمكوث أياماً, فلم هذه الحرارة في الوداع؟ وهو رحيل الراغب؟ إلا أن يكون استدرارا للرضا, وطلباً للأمن من مكرٍ وشيك الوقوع. وإضافةً إلى ظروف رحلة القدوم, تواترت القصص عن سوء التقبُّل المتخفي من الطرفين, ابتداء من قصة عضد الدولة «هوناً ما يتهددنا المتنبي», وليس انتهاء إلى مقارنة المتنبي بين عطايا كل من عضد الدولة وسيف الدولة, وأن الأول يعطي تكلفاً والثاني سجية, حتى قيل أذِن عضد الدولة لبني ضبة بقتله في رحلة العودة. ويمكن لمن تأمل طبيعة نفس المتنبي أن يجد دعامة قوية في طبيعة الشاعر شديدة الانتماء للعروبة, وبغض العجم, وإن كان في مرحلة أشار فيها للعديد من مزايا الفرس وكبرائهم, لكن حتى في عنفوان متعته بطبيعة تلك الأقاليم كان ينغّص عليه أن الفتى العربيّ :«غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ» وربما الروح في شيراز. هذه الغربة العنيفة التي يقاسيها أرغمته على المهادنة طمعاً في وصولٍ آمِن. ودعامة ثالثة للشك: من وصفه لرحلة العودة, وما فيه من (سيف, ضُربتُ به, القنا, الأبطال الأعداء, الأسنّة) وهذا وصف طريقٍ إلى معركة لا عودة إلى الوطن. أما السؤال الثاني: فهل هذه القصيدة من نمط الكافوريات التي يقلبها هجاءً حال مغادرته؟ وبينهما قليل شبه, وكثير اختلاف, فمن الشبه: التلميح الذكي خفيّ السحر, دقيق الدلالة, في مثل: إشارته لصفات من يفتدون عضد الدولة: فلو كانت قلوبهم صديقاً... لقد كانت خلائقهم عِداكا لماذا انتقى هذ الصفات تحديداً : (الخديعة والبطش الغادر, ذوي الأحساب الضعيفة مع الأموال الكثيرة, أهل بشاشة الوجوه وعداوة الباطن) عادته في خطاب الملوك أن يمدح بالشجاعة والإقدام وهزيمة الأبطال, فاختلفت الصفات؛ لأنه يخاطب آخرَ غير الممدوح, يصف فيها أعداءه هو, وأولهم عضد الدولة, هي تلميحٌ شديد المرارة كتلميحاته في الكافوريات حين تُقحم الصفة كأنّ المعنيّ بها بعيد, وهو المخاطب عينه. ومن تلميحاته القريبة من طريقة الكافوريات: وعجب الصفوة من عُلو المرء أو صعوده, مؤشر على عدم استحقاقه, كما قالها يوما لكافور, بتصريحٍ أقسى: ولكن الاختلاف بين هذه القصيدة والكافوريات أكبر مساحة, ظروف المتنبي مختلفة فهو في غربة حقيقية ومعه نفر قليل, وعضد الدولة من البطش والقوة ما يخيفه أكثر من كافور, لذا كان المديح الذي يطلب الرضا بأيّ طريقة هو الغالب, واشتد الحذر أكثر من التلميح, فهي مختلفة في نوعها حيث لا هجاء, لكن تعريض (ربما) كان سيتحوّل إلى هجاء لو امتد العمر بالمتنبي قليلا, فالمبالغة في المداراة, والبحث عن الرضا, واستدرار الحماية هو الفارق بينها وبين الكافوريات, على أنه في كل قصيدة وداع يلقيها قبل رحيله يؤكد أن (الراحلون همُ), كان بعنفوان يقول في وداعه شديد اللهجة لسيف الدولة: وقبل وداعه كافور قال: لكنه ينظر من زاوية أبعد في هذا النص, زاوية الوجل الدفين, يعطي ضمانات أنه صادق, (وهو صادق إذا قُرئ النص على أنه في توديعه لنفسه) كأنما تُرفع له سجف الغيب: أروحُ وقد ختمتَ على فؤادي...بحبّك أن يحلّ به سواكا ولأنه القامة الشاهقة في الخبرة الإنسانية بالطبائع, لا يٌغادر قبل أن يقسّم الأحباب إلى قسمين لا ثالث لهما, محب حقيقي, ومحبّ زائف, لا محل لفئة -بين بين- , والوداع الفيصل؛ لأن دموعه ضاربة للحمرة, تنبع من غورٍ قصيٍ بعيد, يُراوح بين احتياجه للتعبير, وإذعانه للتلميح, وإمعانه في التورية : ولكنّ شجن النفس الأبية ما يلبث أن يفور تعريضا في تأنيب قلبه إياه: أما السؤال الثالث: ما أبرز نقاط التحوّل بين دلالات هذا النص وعموم نصوص المتنبي؟ فالمنعطف الأول: في هبوط الأهداف, وضعفها حدّ الاستسلام, وهذا الهبوط بدأ بالعَدّ التنازلي في السنوات الأربع الأخيرة من عمره, فالذي صرخ في بداياته: هو الذي همس ناصحاً قبل رؤية المنعطف: ثم هو نفسه الذي يهتف بلا مبالاة في مقام الوداع الأخير: لأنه من لقبه (تنبّأ) بقرب الأجل, ويقين الخطر, وساعة النهاية.. ومنعطف ثانٍ, في الشعر, فالذي تباهى في كل أغراضه بقيمة شعره, وجعلها مقابلاً باهضاً يفوز به الممدوح مهما بلغت العطايا, حتى في أضعف حالات التباهي: عند الاعتذار, يقول: في مقامه هذا المتتبع لعين الرضا, يقول: بذل كل شيء, تنازل عن أعظم ما يمتدح به نفسه, في سبيل وداعٍ يعلم يقيناً أنه يودّع فيه ذاته, ذاته الحقيقية.. والمنعطف الثالث: انخفاض منسوب الفخر, حتى كاد ينعدم, وله في عضد الدولة ست قصائد كلها يتناقص فيها الفخر, وكلها خفيّة السحر, فاترة المدح, غامضة المقصد, وكأنه يستكشف مخاطر الفخر؛ لفردية عضد الدولة, بينما مدائحه في بدر بن عمار, وسيف الدولة, واضحة المبالغة, جليّة الفخر, فيجعل نفسه بمقام الممدوح, لم يتنازل المتنبي عن الفخر حتى وهو مريض, يقاسي الوحدة, وانكسار الفراق, فارق الحبيب بلا وداعٍ, وودّع البلاد بلا سلام, ومع هذا, كرامته تفضّل الاكتفاء الذاتيّ على طلب معونة, يقول: فكيف يتوسّل في هذا النص حماية ورضا؟ إلا لليقين بما ينتظره خارج الصدف والاحتمالات: وما أبعد الدلالات بين (أنا) في هذا النص, و(أنا) التي قالها أكثر من ستّين مرة, في مواضع أغلبها الفخر: أنا السمهري, أنا الصائح, أنا ترب الندى, أنا الذهب, أنا الثريا.. هذه (الأنا) تبدو هنا متضائلة جداً, ومحبَطة جداً, وهي تكتب السطر الأخير لتلك الأنا الضخمة, وبينما كان يظن : «وما تُحسنُ الأيام تكتبُ ما أُملي» , أملى هو خاتمة السيرة الذاتية الصاخبة, بأن كل ما سبق : (لا شيء) : يا لقوّة التجارِب! التي غيّرت معالمَ رؤيته الصلبة, وأرغمته على المنعطفات الحادّة. فمن فوران البدايات إلى رحيق الختام, الرحيق المرّ, يتجرّعه ولا يكاد يسيغه. المتنبي في هذا النص لم يكن يودّع عضد الدولة وحده, بل يودّع نفسه ويخاطبها في لبوس الآخر, يبدو من الإنهاك, وغمرة الإحباط, وضيق الأمل, ويقين الخطر, ما يوحي بأنه يب ثّ شفرة الأسرار الأخيرة, وشجون لقطات الختام, يضيف أقوالاً أخرى لضابط السيرة الذاتية الشائكة التي قست كثيراً على الآخرين, ويعزف يائساً إيقاع المقطع النهائي, ويبقى لقرائه التأمل في عجائب الدوران. - نايفة العسيري