قبل أيام وصلتني عدد من الرسائل من أحد طلابي، الذي يدرس بالولايات المتحدةالأمريكية وأُشْرِفُ عليه كمشرف مساعد خلال دراسته الحقلية بالمملكة لاستكمال متطلبات دراسته العليا من جامعة جنوب ديكودتا، وقد كتب فيها بحرقة وألم عن الصيد الجائر الذي يقوم به البعض في بلدنا ويسرد لي تارة نتائج دراسته التي كانت على طائري الشاهين الجبلي والوكري وهما من رتبة الصقريات وكيف أنها تشير إلى تناقص كبير ومخيف في أعشاش الشاهين الجبلي، أما الوكري فلربما اختفى كطائر معشش بالمملكة، وتارة أخرى يرسل صوراً متداولة في وسائل التواصل الاجتماعي عن الصيد الجائر للطيور المهاجرة، وما أثر في نفسي هو قوله «لقد حدثتني يا أستاذي كثيراً عن الحبرو العربي في بلادنا وأنك رأيته في سهول تهامة قبل سنين. وأنا أحد أبناء هذا الجيل لم أره على الرغم ما ذكر عن هذا الطائر وعلاقته بأبناء هذا البلد المعطاء، فقد لقبه أجدادنا بسعاد واستبشروا برؤيته بنزول المطر، وأنشد أطفال منطقة تهامة الأهازيج عند رؤيته يسير في سهول تهامة منشدين بلحن جميل «يا سعاد أريني رقص العزبة»، وما يحزنني أن مسلسل اختفاء حياتنا الفطرية ما زال مستمراً فهاهي الشاهين الجبلي والوكري في بلادنا في تناقص كبير، وهذا التناقص الذي يحدث ربما لن يمكن أبنائي والأجيال المقبلة من رؤيتهما في ربوع بلادنا ولن يبقى منهما سوى تاريخ وذكريات تطل علينا في عالم النسيان. لقد أحزنني كثيراً ما قرأته في رسائل هذا الطالب والنظرة السلبية لمستقبل الحياة الفطرية في بلادنا، صحيح أن هناك صيداً جائراً وأفعالاً غير حضارية من فئة بسيطة من الشباب لكن هناك مجموعات كبيرة من المجتمع ترفض ما يقوم به بعض شبابنا من قتل وتعذيب للحيوانات فكانت هناك كتابات ومنشادات لوقف هذه الأعمال من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتحدثت عنها عدد من الوسائل الإعلامية المقروءة والمسموعة أوصلت خطر هذه الأعمال للمسؤولين لينزل أول الأحكام على مرتكبي هذه الجرائم كمحرقي الثعلب مثلاً... ليس هذا فحسب فنفس وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر القتل والتعذيب للكائنات الحية هي نفسها ما تنشر صوراً جميلة احترافية للحياة الفطرية بهذا الوطن الغالي بأيدي سعودية جعلت لهم موقعاً في الكثير من المحافل، فهذه مجموعة مصوري الطيور السعودية مثلاً أصبح لها ركن سنوي في معرض ألوان السعودية يعرضون فيها صوراً لطيور الوطن التقطها أبناء هذا البلد الغالي، بعد قصة عمل وكفاح وصبر، وحقيقة فأنا نفسي تعلمت من هؤلاء الشباب أموراً كثيرة من مزاملتي لهذه الفئة من الشباب، فالتقاط صورة معبرة لطائر تحتاج لصبر وجهد ومال للسفر ولكاميرات وعدسات خاصة، كما تعلمت منهم العطاء والمشاركة فكباحث أقضي وقتي عند مشاهدتي للطيور بتسجيل ملاحظاتي على سلوكيات معينة وربما صورت صورة أو صورتين للتوثيق، لكن هؤلاء الشباب قدموا لنا صوراً جمالية لطيور الوطن حقاً مبهرة جعلت من يراها يفتح فاه وعلامات التعجب على وجهة متسائلاً هل هذه الطيور عندنا، ليس هذا فحسب فقد قدموا توثيقاً بصورهم لطيور والوطن وطيور أخرى لم تكن مسجلة بالمملكة من قبل وأذكر أن قصة طائر الزمير بيندوليني الذي سجله أحد مصوري الطيور وكان توثيقاً علمياً لوجود هذا النوع بالمملكة. لقد علمتني مجموعة مصوري الطيور السعودية الإصرار على النجاح، فهذا أحدهم وأفتخر بصحبته وبذكر اسمه «أ. محمد المحترش» الذي أقف له احتراماً يجوب أرض الوطن في نهاية كل أسبوع لتصوير وتوثيق الطيور في وطننا الغالي مستخدماً سيارته التي أدخل عليها بعض التعديلات لتكون مهيئة للتخييم والتقاط الصور الفوتوغرافية، حيث قام بالتقاط صور لأحد أندر الطيور على مستوى العالم وأعلاها في مستوى تعرضها لخطر الانقراض وبشكل حرج جداً، بسبب الصيد الجائر وتدهور بيئاته، وهو الزقزاق الاجتماعي، وهذا الطائر يأتي مهاجراً من مناطق تعشيشة بوسط آسيا ليقضي أياماً إلى أسبوعين أو ثلاثة بالمملكة خلال هجرته قبل أن ينتقل لمناطقه الشتوية بأفريقيا، وكان هذا العاشق لطيور الوطن يتردد لعدد من السنوات خلال فصل الشتاء البارد لمنطقة العلا وتبوك قاطعاً المسافات الطويلة بين مسكنه ببريدة ومنطقة وجود هذا الطائر محاولاً مراراً البحث عنه، فكان يتحرك بعد دوام الخميس من كل أسبوع ليقطع أكثر من خمسمائة كيلومتر لمناطق يحتمل تواجده فيها حتى نجح بصبره وعزيمته ليلتقط ويوثق تواجد هذا النوع من الطيور بالمملكة، إن شعور هؤلاء الشباب بالمسؤولية نحو توثيق الحياة الفطرية في بلدهم جعل أحدهم يغير خطة عمله لينقل طائراً جريحاً لمسافة تصل لأكثر من خمسمائة كيلومتر ليوصله إلى مركز التأهيل والعناية التابع للهيئة السعودية للحياة الفطرية. ولا أنسى أخي أ. أحمد العمري أحد شباب منطقة المخواة الذي جسد مثالاً حياً لحب لجمال هذا الوطن رغم إمكاناته البسيطة، فقد قدّم بصوره توثيقاً حياً لعدد من الطيور بالمنطقة لم يكن تكاثرها معروفاً لدى الكثيرين، وكان يحكي من خلال صوره المعبرة قصة تعشيش طائر الشولة الذي يعرف في كتب الطيور العربية بالثرثار العربي وكيف تقوم هذه الطيور الاجتماعية بالتعاون في تغذية صغارها، ومن أجمل صوره المعبرة التي تحكي قصة تكاثر طيور من منطقة المخواة ومن أجملها صور تحكي حياة طائر الحباك جسدت من خلالها مهارات هذا الطائر الهندسية من خلال تصوير وتوثيق مراحل التعشيش لهذا الطائر المهندس المعماري العجيب. إن هؤلاء الشباب يمكن أن يكونوا نواة لما يعرف لدى الباحثين والمنظمات الدولية بعلم المواطنين (Citizen Sciences) ويقصد به المعلومات المقدمة من المواطنين المهتمين بالطيور، وقد قامت جهات لها علاقة بالمحافظة على الطيور بالغرب بتبني هؤلاء الفئة من المصورين والمهتمين ومحبي مشاهدة الطيور من خلال إعطاء الفرصة لهؤلاء المهتمين لتسجيل مشاهداتهم في مواقع مخصصة لهذا الغرض مثل موقع إي بيرد (eBird) لتدوين مشاهداتهم، وهذه المعلومات قدمت خريطة الطريق للمحافظة والتوثيق للطيور كما قدمت معلومات قيمة لعلماء الطيور، وهذه الرعاية أشعرت هذه الفئة بأهميتهم وبما يقومون به، فأصبح كل واحد منهم يقوم بإدخال المعلومات على الموقع حتى خلال سفرهم خارج بلدانهم، كما أن بعض المنظمات تتواصل معهم لمشاركتهم كمتطوعين في مسح بعض المناطق البرية لما لهم من خبرة في معرفة المواقع والطيور، وهذا ما نحن نحتاج إليه أن نهتم بهذه الفئة بالمجتمع ونقدم لهم العون فماذا يضير لو شارك هؤلاء المصورين في رحلات حقلية لتوثيق الحياة الفطرية في وطننا الغالي مع الجهات ذات العلاقة، وما يضير الشركات الكبيرة أن تقدم الدعم من خلال برامجها بالمسؤولية الاجتماعية لتبني هؤلاء الشباب وعرض صورهم في معارض وطباعة كتيبات وتوزيعها لتحكي قصة جمال وسيرة حياتنا الفطرية وتوثيقها بالصور للأجيال القادمة. لقد تمنيت وأنا أقرأ رسالة طالبي البراء أن يكون حاضراً أمامي لأخبره أن الصيد الجائر غير الشرعي للطيور ليس مشكلة عندنا فقط فهناك دولاً تعاني من هذه المشكلة، حيث تشير دراسات نشرها موقع البيرد لايف إنترناشونال أنه في بعض الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط هناك حوالي 20.1 مليون طائر مغرد و100 ألف طائر جارح ومليون طائر مائي يقتلون سنويا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، حتى اختفت من جراء هذا الصيد نحو 40 نوعاً في بعض المناطق. وتشير إحصاءات أن عدد الطيور المصادة بطريقة غير شريعة في إيطاليا يصل إلى نحو 5.6 مليون طائر سنوياً، وفي لبنان هناك 2.7 مليون طائر، وفي فرنسا نحو 522000 طائر، ومن أعلى الدول التي يحدث فيها الصيد الجائر مطلة على البحر الأبيض المتوسط هي جمهورية مصر العربية حيث يصاد سنوياً نحو 5.7 طائر سنوياً. وما يحدث في هذه الدول يحدث عندنا والكل يعلم عن صيد طيور القمري الأيوراسي وهو من الطيور الأوروبية التي تصل المملكة وتصاد خلال هجرتها ومرورها بالمملكة التي دخلت هذا العام ضمن قائمة الطيور المهددة بالانقراض على مستوى العالم حتى وصل نسبة التناقص في بعض مناطق تكاثرها بأوروبا نحو 90 في المائة، ويقدر الباحثون أعداد القمري التي تصاد بطريقة غير شريعة خلال هجرتها بنحو مليون طائر سنوياً. ويستشعر المسؤولون في معظم الدول هذه المشكلة، وعليه فقد وضعت الأنظمة والتشريعات، كما وقعت اتفاقيات دولية بين الدول للمحافظة على الطيور المهاجرة. ليس في ذكري لهذه الإحصاءات أن أقلل من ظاهرة الصيد الجائر وبما يصاد عندنا بالمملكة فلربما كان أكثر مما عليه في دول أخرى ولكن علينا أن نعمل ونذكر بمخاطر الصيد الجائر علينا وعلى الأجيال القادمة ونذّكر بما يمليه علينا الشرع في الحفاظ على ثروتنا الطبيعية التي سنسأل عنها يوم القيامة فأنا وأنت والجميع علينا نُعلّم ونكتب عن هذه الظاهرة الغريبة عن ديننا ومجتمعنا، فتعذيب الحيوانات وقتلها بدون حاجة أو لتفاخر وتحدٍّ سيعود علينا وعلى بلدنا -لا سمح الله- بغضب الله، والحقيقة أن مجتمعنا يحتاج المزيد من التوعوية فمن تجربتي مع عدد ممن كان لهم باع في الصيد الجائر وجدت أن الكثير منهم يفتقر إلى الإرشاد والتوعية والمعرفة بأهمية هذه الكائنات، حتى أن بعضهم بعد أن قدمت لهم المعلومات وعلم بسوء ما يقوم به من صيد جائر تغيّر وتحوّل من الصيد بالبنادق إلى الصيد بالكاميرا لينقلب من إفناء للحياة الفطرية إلى موثقٍ لها في بلادنا. كما أن أحد طلابي كان يقوم بشراء وبيع الحيوانات البرية ويبرز حبه للطيور بأن يجمع منها في أقفاص، فبدأت معه مشروعاً بحثياً عن تجارة الحيوانات غير الشرعية بمنطقة الطائف، كما بدأت أشركه في مشروع بحثي عن الطيور البحرية وهذا يتطلب منا السفر لمناطق بعيدة فكنت أستغل الوقت بالتعريف بحياتنا الفطرية بشكل عام والطيور بشكل خاص وكيف علينا الحفاظ عليها، وأشركته معي في مؤتمرات فتحول فكره ليصبح أحد أهم مراقبي ومصوري الطيور بمنطقة الطائف، حتى أنني أستعين به في بعض الرحلات العلمية. وهذا ما علينا عمله، فرسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- دعا الناس بالموعظة الحسنة، يقول الله سبحانه وتعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} سورة النحل- الآية (125). إن أبناء هذه البلاد -والحمد لله- فيهم بذرة الإيمان وحب وعشق الوطن وترابه ولو قمنا والجهات ذات العلاقة بواجبنا التوعوي والإرشادي لرأيت العجب منهم، ولو علم هؤلاء الصيادون أن 80 في المائة من أنواع الطيور بالعالم تتناقص أعدادها سنوياً لعدد من الأسباب من أهمها الصيد الجائر وتدهور بيئاتها نتيجة النشاطات البشرية، لعملوا على حمايتها والحفاظ عليها، وحقيقة إن كثيراً من برامج المحافظة على الطيور والحياة الفطرية في شتى أنحاء العالم بدأت بأيدي صيادين، لذا علينا أن نعرف بأهمية الحفاظ على الحياة الفطرية بشكل عام والطيور بشكل خاص، وأن نقدم نتائج الدراسات العلمية التي تشير إلى تأثير الصيد الجائر على الطيور المهاجرة، فالدراسات العلمية الصادرة من سكرتارية معاهدة المحافظة على الأنواع المهاجرة بأن هناك تناقصاً كبيراً في أعداد الطيور المائية المهاجرة وصل إلى 40 في المائة، كما أن الطيور الجوارح تناقصت في مناطق تكاثرها بنسبة وصلت إلى 50 في المائة، كما أن هناك 40 نوعاً من الطيور المغردة بأوروبا اختفى من بعض المناطق بسبب الصيد الجائر وبعضها اختفى تماماً من مناطق أخرى، ولو علم الصيادون أن 50 نوعاً من الطيور انقرضت من على الكرة الأرضية بسبب الصيد الجائر خلال القرون الخمسة الماضية لزادوا حرصاً على المحافظة عليها، فهم يعلمون أن هذه الطيور تسبح الله ليل نهار ولا يتمنون أن يكونوا سبباً في انقراض أمه تسبح الله. علينا أن نعرف أبناءنا وإخواننا في هذا البلد الغالي على قلوبنا عن دور الطيور المهاجرة في البيئة وما تقوم به من أعمال جليلة للبشرية خلال هجرتها، فهذا صقر أميور يقوم بالتخلص من أكثر من 2.5 بليون نملة بيضاء خلال تواجدها في جنوب أفريقيا لقضاء فترة الشتاء التي تصل من 3 إلى 4 أشهر، وأن عمليات القتل لهذه الطيور وصيدها الجائر في الهند أدى إلى قتل أكثر من 120 إلى 140 ألفاً من هذه الصقور بين عام 2006 إلى 2012م، وكيف أن ذلك أدى لمشكلات بيئية واقتصادية لجنوب أفريقيا، فالنمل الأبيض والجراد الصحراوي يؤثرا بشكل كبير على المزروعات، وبتناقص هذه الطيور نتيجة الصيد الجائر لهذه الصقور بالهند طرح أعباء اقتصادية على جنوب أفريقيا للتخلص من هذه الحشرات الضارة وزيادة لنوع من الديدان التي تهاجم نبات الدخن، كما زادت أعداد الجراد الصحراوي مسببا خسائر كبيرة بالمزروعات بأفريقيا. علينا أن نذكر بأهمية النسور وكيف أن تدهور أعدادها سوف يزيد من ظهور وانتشار أمراض عديدة، وما حدث في الهند بعد تناقص أعداد النسور كلف الحكومة الهندية أكثر من 35 مليون دولار سنوياً لعلاج الناس من عضات الكلاب بسبب تزايدها نتيجة تغذيتها على الحيوانات الميتة بعد أن غابت النسور، علينا أن نوعي أبناءنا أن زيادة صيد طيور الدخل والطيور المغردة سوف تزيد من الحشرات التي تهاجم أشجار السمر. وأخيراً علينا أن نري جمال هذه المخلوقات وأن الله لم يخلقها عبث وأنه سبحانه وتعالى قد جعلها زينة الأرض يقول الله سبحانه وتعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} سورة الكهف (آية 7)، ومن هنا أدعوا كل محب لهذا الوطن أن يزور ركن مصوري الطيور السعودية في معرض ألوان السعودية ليروا كيف هي طيور الوطن في عيون أبنائه. أ.د. محمد بن يسلم شبراق - عميد شئون المكتبات بجامعة الطائف، ومستشار غير متفرغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية