مع أن المؤسسات الأكاديمية، وخصوصا الجامعات، تزخر بمختلف الكفاءات، وفي تخصصات عديدة، وهي أيضا أكثر المنظمات استحواذاً على ذوي القدرات الفكرية العالية إلا أنها طالما واجهت معضلة كبيرة في تأهيل واختيار القيادات الأكاديمية، وخصوصاَ في وظيفة رئاسة القسم الأكاديمي و وظيفة العميد سواءً كان عميد كلية أو عميد إدارة أوخدمة أكاديمية فمعظم الأكاديميين أمضوا جل وقتهم في الدراسة المتخصصة وجعلوا تركيزهم ووقتهم في اكتساب القدرات والمعارف والبحوث والدراسات التي تؤهلهم للترقيات الاكاديمية، وقليل منهم لديه الرغبة في التخلي عن بعض من ذلك الوقت لتولي مهام إدارية أو تنظيمية إلا بعد تحقيق أهدافهم الأكاديمية، وهذا الأمر يجعل حيز الاختيار ضيقا ومحصورا بالفئة التي ليس لهم طموحات بحثية والفئة التي حققت طموحاتها البحثية ولكل فئة من الفئتين خصائص تجعل اختيار الكفاءات المناسبة من أي منهما عملية ليست سهلة. يغلب على الفئة التي ليس لها طموحات بالترقي الأكاديمي القناعة بما تحقق والذي يكون في الغالب نيل درجة الدكتوارة؛ فكثيرون منهم أنهكهم البحث وأربك أولوياتهم والبعض واجه صعوبات في تحقيق الدرجة العلمية، فكان ذلك بالنسبة لهم عامل إجهاض لمزيد من البحث والترقي، هذا الأمر بحد ذاته يجعل كثيراً منهم غير مناسبين لتولي مراكزقيادية في المنظمة الأكاديمية والتي يعتبر البحث والترقي الأكاديمي أحد أهم أدوارها، والبعض من هذه الفئة بطبيعته التكوينية لا يحوز القدرة على تولي العمل الإداري والقيادة وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بإدارة رغبات ومهام أعضاء الهيئة التعليمية والتي منها أعضاء ذوو شخصيات كرزماتية مؤثرة في محيطها مما يجعل عمل رئيس القسم أو العميد محفوفاً بالتحديات والمواجهات. ويغلب على الفئة التي حققت الطموحات الأكاديمية وبلغت مراتب الأستاذية، أحد أمرين, الأول انفتاح فرص في البحث والاستشارات لها مردود نفعي أكبر مما يجعل من يتحقق له ذلك محجماً عن تولي مهام قيادية أو إدارية قد تؤثر على المنافع البحثية والاستشارية، والأمر الثاني أنه عادة ما يكون قد نما لدى هؤلاء نمط في التفكير وسلوك ذاتي يجعل مراسهم صعب وإدارتهم أصعب، فيصبح العمل معهم نزاعا مستمرا لتغليب وجهة نظر على الأخرى. هذا الواقع ليس خاصاً بالجامعات السعودية، بل هو سائد في معظم جامعات العالم، وخصوصاً قبل حقبة السبعينيات من القرن الماضي عندما كانت القيادة الأكاديمية ترتكز على السلطة الكرزماتية لرئيس القسم الأكاديمي أوالعميد، ويتعلق النجاح بقدرته على تطويع الآخرين وفرض منهجه أو فكره في تحقيق الأهداف، ولكن بعد انتشار أفكار مدرسة العلاقات الإنسانية في الإدارة أصبحت القيادة الأكاديمية تعتمد على القدرة في التخطيط الاستراتيجي وتحقيق الإجماع في دعم الرؤية والأهداف المشتركة وتنظيم الأعمال في صورة برامج ومشاريع تحقق تلك الرؤية، لذا أصبحت أهم القدرات التي يجب أن يتمتع القائد الأكاديمي بها هي القدرة على تحفيز فريق العمل وتكوين محصلة تضافرية للجهود المختلفة لتدعم الجهد الموحد، وهذه القدرة تحتاج قدرا كبيرا من الحكمة والاحتمال والتوليف والتفكير بالبدائل التي عادة ما تكون خارج المألوف، إلى جانب المهارات الإدارية التي عادة ما تكتسب بالتطوير والتدريب، فالتخطيط الاستراتيجي أصبح مهارة تكتسب بالتدريب ولم يعد سمة أو نزعة لازمة للشخصية الكرزماتية، فأصبح له أدواته وإجراءاته وبرامجه الحاسوبية، وعلى القائد الأكاديمي الإلمام بها وممارستها باستمرار لتحقيق التمرس والفاعلية، ومن المهارات التي يجب على القائد الأكاديمي حيازتها هوفن إدارة الآخرين بالذكاء الاجتماعي والقدرة على خلق البدائل والخيارات عند مواجهة المعضلات، وهذ الفن بحد ذاته يعتبر تحديا كبيرا, فإدارة ذوي النبوغ والتعليم العالي تستلزم قدرات قيادية فذة، ومع الحاجة المتنامية للرقي بالخدمات والبرامج الأكاديمية تبرز القدرة على ضبط الجودة وإدارة الالتزام بمعايير الاعتماد الأكاديمي أحد عناصر القيادة الأكاديمية المتميزة. التعليم الجامعي في المملكة اليوم يتألف من (26) جامعة حكومية و(10) جامعات خاصة وعدد كبير من الكليات المتخصصة وكليات التميز، وكل واحدة من هذه الجامعات والكليات مطالبة بتحقيق معدلات إنجاز تجعلها في مراتب متقدمة من التصنيفات والاعتمادات الأكاديمية، وفي حين لا ينقص هذه الجامعات الموارد المالية والدعم الحكومي نجد أن الكثير منها يكابد منذ فترة طويلة لتحقيق تلك المعدلات دون جدوى, وهذا الأمر مردود لضعف الكفايات القيادية في الجامعات، وضعف آليات الاختيار لتلك الكفاءات والتي عادة ما تفتقر لمنهجية علمية واضحة، فلازالت معايير الاختيارو الترشيح شخصية وغير موضوعية في معظم الأحيان.