شهدت الساحة الثقافية في بلادنا خلال السنوات القليلة الماضية حراكاً غير مسبوق من قبل بعض الباحثين الشباب في التطرق لبعض الموضوعات التي أهملت ولم تدون إما لقلة المصادر عنها، أو زهداً فيها من قبل المؤلفين لسبب أو لآخر. ولعل التاريخ المحلي المبني على الوثائق هو أهم ما رصدته ورأيت فيه تطورا وتنوعا وشدة إقبالا من قبل المؤلفين والمهتمين على حد سواء، ومن الكتب التي استوقفتني في مثل هذا الشأن كتاب بعنوان (ابن عنيزان وهجرته من يبرين إلى الجفر - دراسة تاريخية وثائقية) للمؤلف عبدالله بن إبراهيم اليوسف وهو شاب في منتصف عمره، ويعد هذا العمل باكورة إنتاجه كما في سيرته المرفقة في الكتاب حيث رصد في عمله هذا جزءا من تاريخ بلدته الجفر التي تُعدُّ واسطة العقد لقرى شرق محافظة الأحساء، وتلمس سيرة الرجل الصالح ابن عنيزان صاحب السيرة العطرة الذي يقال: إنه أول من عمر الجفر، أو هو الذي أحياها وبعثها بعد أن اندثرت ودرست كغيرها من القرى التاريخية القديمة، ويقع هذا العمل في (209) من الصفحات مزودا ببعض الوثائق الهامة والصور، ومقسم إلى ثلاثة فصول تحدث فيها بشكل عام عن تاريخ الأحساء وبعض مدنه كالمبرز، والجفر، ويبرين، وعن بعض الوثائق القديمة ومحتوياتها، مع لمحة موجزة للظروف والأحداث التي وقعت في المنطقة، ثم عن تاريخ ابن عنيزان الذي احتل مساحة ضئيلة جداً في آخر الكتاب من ص 167 وحتى ص 192 وهو ما أعدّه قصوراً من المؤلف لأن مضمون الكتاب يخالف عنوانه حيث أسهب في سرد تواريخ وأحداث أبعدته عن الخوض في موضوعه الأصلي الذي لم يشبعه بحثاً وتنقيباً وكان الأولى به أن يوجز ما أورده من معلومات لم يكن له نصيب منها سوى النقل إذ هي مدونة في بطون الكتب التي تحدثت عن تاريخ المنطقة في القديم والحديث. أما ما يحمد للمؤلف فهو تناوله لهذه الشخصية الشهيرة عند أهل الجفر خاصة وأهل الأحساء عامة، فمن هو صاحب هذه الشخصية؟ وفي أي زمن عاش وما سبب شهرته؟ منذ زمن طويل والناس في الجفر يتداولون اسم ابن عنيزان ويسردون قصصه وحكاياته ويشيرون إلى أوقافه وأملاكه بين مصدق يبرهن بوجود كثير من الوثائق التي تثبت صحة قوله، وبين مكذب يرى أنه شخصية أسطورية من نسج خيال الحكاواتية لتزجية الوقت وتسلية السمّار في الليالي المقمرة. أما المؤلف فيرى أن شخصية ابن عنيزان حقيقية أخفى الزمن جزءاً كبيراً من تاريخها؛ لذا أراد أن يزيح اللثام عنها، ويلملم ما تبقى من ذكر لها في صدور الرواة وسطور الوثائق، على أن عبداللطيف العقيل مؤلف كتاب الجفر قد سبقه بالتطرق لذكر ابن عنيزان معتمدا على ما تختزنه الذاكرة المحلية عنه، أما اليوسف فقد اعتمد على الوثائق التي جمعها من أماكن متفرقة وهذا بلا شك عمل يشكرعليه؛ لأن مافي السطور أبقى مما في الصدور. وتوصل إلى أن ابن عنيزان رجل من الأغنياء ومن ذوي الحجا وبسبب ذلك احتل مكانة كبيرة في مجتمعه وربما كان أميرا على جماعته الذين قدموا معه من يبرين يدل على ذلك قصره ومسجده ومزارعه الكثيرة ومساعدته للفقراء والمساكين حيث أوقف جزءاً كبيراً من أملاكه عليهم مما ترك انطباعا طيبا وجميلا في نفوس الناس عنه حتى يومنا هذا، ويورد المؤلف أن الشيخ حمد بن حمد المظفر عمدة الجفر سابقا يتذكر أنه في السنوات الماضية كان الناس يقرأون القرآن وهو ما يسمى بالختْمة في شهر رمضان في المسجد القبلي القديم ويُهدى ثوابُها وأجرُها لابن عنيزان- رحمه الله-، ومما يثير الانتباه أن عقارات ابن عنيزان تحولت إلى أملاك للدولة (بيت المال) إلا أنها تحمل اسمه إلى يومنا هذا وهي: قصره ومسجده ملحق به بيت للإمام وبيت للمؤذن، وأرض فضاء تسمى براحة ابن عنيزان يقال: إنها كانت مسرحا لاستعراض الخيل قديما ويورد المؤلف أيضا أن الشيخ مبارك البوعلي وهو من كبار السن الثقات في بلدة الجفر وممن لهم دراية وخبرة بالعقارات الزراعية أكد أن لابن عنيزان أملاكا ومنها (بو عشي، الفقر، الخاصرية، السنانية، البرية الوصيطا، المحرق، المبادرية، أبي حصان، الكدانية، زعيفرين) وجميع هذه العقارات تقع في طرف بلدة الجفر على ساقية نهر الدغاني ونهر الحيادي ونهر الجامودي وقد أوقفت بعض هذه العقارات الزراعية على المساجد ودور العلم في الجفر وخارجه وهي كثيرة ويصعب حصرها ولا يزال العديد منها مجهولاً وهي على امتداد واحد من بلدة المنيزلة إلى الفضول مروراً ببلدة الجفر حتى بلدة الجِشَّة وربما له أملاك في أماكن أخرى. ةوتشير الوثائق القديمة الى أنه قدم إلى بلدة الجفر من يبرين وهي بلدة قديمة تقع في أطراف الربع الخالي، وسكانها الحاليون من قبيلة آل مرة وهي إلى الجنوب الغربي من محافظة الأحساء وتتبع لها إداريا، ويقال: إن قدومه مع قومه من هناك لطلب الرزق، وهذا يثير تساؤلا مهماًيف يكون قدومه لطلب الرزق وهو رجل ثري جداً؟ وهذا مما أغفله المؤلف ربما لأنه لم يجد إجابة شافية لذلك؟ وقد اختلف في اسمه فقيل عبداللطيف وقيل خالد وقيل أحمد، أما المؤلف فاستند على الوثيقة رقم (8) الواردة في الكتاب وفيها أن اسمه عنيزان بن خليفة بن طريف عبدل ومع أنه اختار هذا القول إلا أنه مشى مع قول الكثيرين من أن اسمه ابن عنيزان، وأما قبيلته فورد في الوثيقةِ نفسها أنه من العبادل من بني تميم، على أن أهل الجفر مختلفون في قبيلته كما هم مختلفون في تاريخه كله، فيذكرون أنه من قبيلة وائل وتارة يقولون: إنه من آل جدي من شمر، ومنهم من نسبه إلى قبائل أخرى. قلت يحكي لي أحد أعمامي وهو من مواليد وسكان الأحساء أن فخذاً أو أسرة من قبيلة بني خالد تسمى (العنيزان) لربما أن لها علاقة بهذا الرجل خاصة إذا عرفنا أنهُ عاصر إمارتهم في الأَحساء إذ تدل الوثيقة آنفة الذكر على أنه حي يرزق عام 1106ه بل ذكر المؤلف نقلا عن مؤلف كتاب الجفر ماضيها وحاضرها حاشية رقم (37) أن الشيخ عبدالعزيز بن علي المبارك كان يعمل في تجديد بناء بيت ابن عنيزان عام 1350ه فعثر على حجر مكتوب عليه (لقد تم الانتهاء من تشييد هذا البناء عام 903ه وكانت الكتابة بالقلم العويصي) وقد طرح المؤلف تساؤلات عدة وقف حائراً أمامها ومنها هل كان ابن عنيزان حاكما للجفر؟ وماهي الظروف والأحداث التي وقعت في زمنه وشارك فيها؟ وهل رحل عن الجفر أو مات فيها؟ ومنهم ورثته وهل أنجب أبناء؟ وكيف لرجل واحد أن يملك كل هذه العقارات في بلدة واحدة؟ ولأنه لايملك الجواب الشافي لتِلك التساؤلات فقد ترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام الجميع للبحث والتنقيب والدراسة لهذه الشخصية الهامة التي حيرت الباحثين والمهتمين بالتاريخ الأحسائي. وقد ذكرتني شخصية ابن عنيزان بشخصية الفتى ابن أم زليل صاحب قنا والبحر بتهامة الذي يتناقل قبائل رجال الحجر وغيرهم من بلدان عسير حتى اليوم أخباره خاصة مع صديقه الريشي التهامي وقصصه الأخرى في الكرم والبذل والعطف على الضعفاء والمساكين حتى إنهم ليطربون لذكره في مجالسهم وأماكن سمرهم على الرغم من اختلاف الرواةِ حوله وقد أزاح الدكتور عبدالله بن محمد أبو داهش البحاثة المعروف الغموض عن هذه الشخصية ببحث له نفيس بعنوان (شخصية ابن أم زليل بين الحقيقة والخيال) ونشره في حوليات سوق حباشة عام 1419ه، ومن الشخصيات المشابهة أيضا الحكيم حميد بن منصور الذي اختلفت الدراسات الأدبية في نسبته وتنازعته الفلكلورات الشعبية في عدد من الأقطار العربية كاليمن، والسعودة، والكويت، والبحرين وغيرها، ولو سردنا بعض الأقوال حول سيرته لطال بنا المقام، وعلمت أنه ألِّف عنه كتاب من عمل الباحث الدكتور علي الخلاقي لكني لم أطلع عليه وانتهى كما قرأت على نسبته لبلاد اليمن السعيدة وأنه رجل حكيم وفلاح ماهر من سكان شرق اليمن، ولأن شخصية هذا الرجل أصبحت أشبه بالأسطورة كشخصية جحا، وأشعب، وعنترة، والزير سالم، فقد ادعى أهل كل بلد أنه منهم وفيهم كما يقول الشاعر ففي جنوب تثليث وشرقا من قرية الجعيفرة الأثرية أطلال مزرعة قديمة مسورة بحجر يرفدها ساق طويل ينحدر من جبال تقع منها في الجنوب الشرقي بمسافة طويلة تسمى (لهو) وتسمى هذه المزرعة بجربة حميد ابن منصور حيث يحكي الرواة المحليون أنه من قبيلة حمالة من قحطان ويدللون على ذلك بقصيدة تفيض حكمة نسجت لتناسب المقام الذي يحتله هذا الرجل في قلوب الناس وفي آخرها أخذ يصف مزرعته تلك وموقعها حيث يقول: فهل لحميد بن منصور يا ترى وجود حقيقي؟ وهل له علاقة بهذه المزرعة الأثرية جنوب تثليث؟ تساؤلات أقف حائراً أمامها مثل ما وقف اليوسف أمام شخصية ابن عنيزان صاحب الأموال الكثيرة والأوقاف العديدة.