أول من أشعل جذوة التأسلم السياسي في تاريخ الإسلام، هم (الخوارج)، حينما رفعوا شعار (لا حكم إلا لله)، فأجابهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بمقولته المشهورة: (كلمة حق أريد بها باطل)، ومنذ ذلك الحين، تشكلت الفرق المنتسبة ظاهرا إلى الإسلام، أما المضمون، فهدفها (السياسة والحكم). ولأن الخوارج أهل باطل ونفاق، يظهرون الذبّ عن الاسلام ويتخذون من هذه الذريعة او الشعارمطية للوصول إلى السلطة السياسية، فقد جعلوا من (التشدد) في تطبيق الأحكام التكليفية، مُسوغا لثوراتهم، فكفروا المسلم بالمعصية، كي يكون (القتل) الذي يتمخض عنه التكفير، مبررا لامتشاق الحسام، يخولهم استباحة الدماء. شعار (لا حكم إلا لله) هو الشعار الذي رفعه الخوارج، غير أن المسكوت عنه في خطاب ثورتهم، مؤداه أنهم (فقط) من يُمثلون (الله) وحكمه على الأرض، وبالتالي فإن كل من اختلف معهم، وناكفهم، هو لا يختلف مع بشر يخطئون ويصيبون وإنما مع الله، ويناكفونه جل وعلا، وبالتالي فقتالهم وقتل كل من اختلف معهم واجب جهادي، ومن يرصد تيارات التأسلم السياسي في العصر الحديث، ابتداء من الحركة الأم (جماعة الإخوان) وانتهاء بجميع مفرزاتها، كتنظيم القاعدة و(داعش) سيجد بوضوح أنهم يشتركون مع الخوارج في ادعاء تمثيل (حكم الله) حصريا في الأرض، وهو ذاته فحوى خطاب الخوارج كما هو معروف. ومن يعود إلى الأصول الفقهية، سيجد كثيرا من الأحاديث المروية عن النبي- صلى الله عليه وسلم- التي تحذر مباشرة ووضوحا من كل هذه المنزلقات التي من شأن تبعاتها نسف استقرار وأمن المجتمعات، وتحذر من إثارة الفتن، وتفرض التزام الجماعة، وذم الانشقاق، والمنشقين، حتى إن بعض هذه الأحاديث، وصفت المنشقين بكلاب النار، فأباح فقهاء المذاهب قطع عنق المنشق، مثير الفتن، الخارج عن الجماعة، كعقوبة رادعة لمن تسول له نفسه الانشقاق على المجتمع، والدعوة إلى الخروج على الحكومات - (ولي الأمر في المصطلح الفقهي) - ما يجعل مجرد التمرد على المجتمعات وإثارة الاضطرابات فيها، جريمة عقوبتها الاعدام، لدى كل المذاهب الأربعة عند أهل السنة، ويتفق معهم في هذا التوجه، المستقلون السلفيون، ممن يأخذون بالحديث متى ما صح متنه، وثبت سنده ثبوتا قطعيا - (كالأحاديث المتواترة) - أو ثبوتا ظنيا - (كأحاديث الأحاد) - ومثل هذه الآثار مشهورة ومتعددة، ويسند بعضها بعضا، بشكل قد يرقى بها من ظنية الثبوت إلى اليقين والقطع. وإمعانا من بعض الفقهاء الأوائل في ترسيخ الاستقرار والأمن، والنأي بالمجتمعات الإسلامية عن كل ما قد يثير الاضطرابات والقلاقل والانفلات الأمني، فقد نصوا على جواز الصلاة وراء كل إمام بَرّ كان أم فاجرا، كما ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، لتفادي الفتن والاضطرابات الأمنية، فأقروا شرعية (الحاكم المتغلب)، الذي استولى على السلطة دون رضا منهم؛ شريطة أن يصل فعلا إلى سدة الحكم، وتبرير ذلك أن مناكفته، قد تؤدي إلى تنازع وانفلات أمني وحروب أهلية، يثير من الفتن ما يعصف باستقرار المجتمع، وهذا المبرر الشرعي لتوجه الكثير من الفقهاء الأوائل إلى القول بطاعته تجنبا لما قد ينتج من عدم الرضوخ لسلطته من اضطرابات أمنية. ولإدراك ما كان يخافه الفقهاء مؤسسو المذاهب الأوائل من مآلات وتبعات، أمامك اليوم ما جرى إبان الثورات العربية، والتي وصفتها تيارات التأسلم السياسي منذ البداية، بأنها ضرب من ضروب (الربيع العربي)،غير أن هذا الربيع المزعوم والدموي والمدمر، تمخض عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين، والملايين من المشردين الذين غصت بهم دول جوار من عصف بها هذا الربيع الكارثي، حتى ركب مجاميع منهم البحر أملا للوصول إلى أوربا، فأصبح البحر مقبرة لبعضهم، وبعضهم وصلوا، لكنهم تكبدوا من المشاق والأهوال، ناهيك عن الخوف والهلع والإذلال، ما الله به عليم. وهذا بالتحديد ما كان يخافه علماء المذاهب عندما شرعوا وجوبا طاعة (الحاكم المتغلب) حتى وإن كان لا يحظى بقبول من يحكمهم، وأمامكم مجريات هذا الربيع القميء فاقرؤوه بموضوعية، واتعظوا بمآلاته. والمتأسلمون بكل تياراتهم، أسقط في أيديهم بعد أهوال ما جرى في هذه الثورات المتأسلمة الملطخة بكل أنواع القبح والشراسة والدموية، فحنى بعضهم رؤوسهم ريثما تمر العاصفة وبعضهم بادر بجس نبض المجتمع من خلال اصدار بيانات التحريض على الجهاد كما كانو يفعلون، غير أننا إذا لم نبادر الى اجتثاث هذه الجماعة الدموية الخطيرة، وبالذات منظريهم ودعاتهم، ونتعامل مع ثقافتهم ومقولاتهم مثلما تعامل الأوروبيون مع (الفكر النازي) الدموي، الذي كان الألمانيون متشبعين به حتى الثمالة، فسوف تعود هذه المآسي مرارا وتكرارا. إلى اللقاء