أن يستثير وقوع مأساة أو حادثة ما قريحة الشعراء، لتنثال شعراً يتعاطف مع الضحية ويصور مصابها فهذا أمر محمود ومألوف يأتي في سياق شعر الرثاء، لكن أن تستثيرهم على خلاف العادة أداة الحادث الصماء ويسبغون عليها أجمل الأفعال وأكثرها تقديساً في الذهنية العامة "السجود"، رغم ما تسببت به من مصاب ويلصقون بها أنبل المشاعر الإنسانية وهو "الخشوع"، كما حدث مع الرافعة التي أدى سقوطها في الأسابيع الأخيرة في الحرم المكي لاستشهاد ما يفوق المئة من الحجاج، إضافة إلى عدد أكبر من الجرحى، فهو أمر مستهجن ترفضه الذائقة السليمة، الأمر الذي دفع بالكثير من المبدعين في بعض المجاميع على "واتس آب" للتعبير عن استنكارهم لهذا اللون الشائه من الشعر غير الشعري بالمرة، والذي تبارى في كتابته البعض حتى وصف بأنه "رقص على الجراح"، وانحراف في الذائقة الشعرية ناجم عن "نقص في الفطنة". وهو ما يثير تساؤلا عن منبع نشوء مثل هذا الخلل في الحس الإبداعي المرهف القائم على حاكمية المشاعر إن صح تسميته من الأساس إبداعا، وسبب ضياع اتجاه بوصلة الشعر؟! وهل ستكون هذه حالة عابرة مرتبطة بظروف قدسية المكان، أم خلل ينبئ عن تشكل خطاب شعري جديد؟ أمر مثل هذا، يحتاج إلى التفاتة جادة متأملة تتفحص بعناية كل ما يطفو على السطح من سلوكيات فردية أو ظواهر اجتماعية وثقافية جديدة لدراستها بشكل مستفيض وتتبع جذورها على أيدي مختصين نفسيين واجتماعيين للوقوف على الأسباب الكامنة وراءها، إذا أن أبسط ما يقال عن بعض الأبيات التي قيلت ومجدت سقوط الرافعة هي أنها ناجمة عن إفراط ونظرة دينية ملتبسة للأمور وذهنية ساذجة. لأن ما جاء في هذه الأبيات من صنعة، يبدو من حيث غرابته غير مسبوق في عصرنا حسب معلوماتي إن لم أكن مخطئة. فحتى ما جاءت به بعض كتب العرب القدامى، من مدح لأمر مذموم، جاء ضمن المنهج الساخر عادة خلاف خطاب "شعر الرافعة"، الجاد رغم قبح بعض صوره، حيث ينقل لنا الشاعر، أبو منصور، عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري، المتوفى عام 429 ه، في كتابه: (تحسين القبيح وتقبيح الحسن)، وهو، ثالث ثلاثة كتب أنشأها الثعالبي في اختلاف الناس في مدح الأشياء وذمها، فيما كتاباه الآخران وهما: (الظرائف واللطائف) و(اليواقيت في بعض المواقيت)، مختصان بطرح نماذج من مدح الشيء وذمه في مكان واحد. وهو كتاب بحسب نظرة بعض الدارسين له، لا يُقبِّح أو يحسِّن الأمور لذاتها، وإنما يقبح ويحسن أفعال الناس لها، ففي كل أمر يفعله الناس، هما إما في حالة: إفراط، وإما تفريط، وهذان هما ما يذمه الثعالبي، ففي "باب المحاسن"، يأتي على ذكر فصول في تحسين الكذب، والوقاحة، والذنوب، والمرض، والموت، والجبن، والحقد، والعمى، والبخل، والغوغاء والسفل، والبله، والجبن والفرار، وفي المقابل يقبح ما اتفق على جماله كالعلم، والعقل والأدب والحلم والشجاعة وغيرها من الصفات الحميدة. فينقل الكتاب مثلاً أبيات لأبن الرومي في تحسين صفة الحقد الذميمة: وما الحقد إلا تؤم الشكر للفتى وبعض السجايا ينتسبن إلا بعض فحيث ترى حقداً على ذي إساءة فثم ترى شكراً على حسن القرض إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع من البذر فيها فهي ناهيك من أرض والسؤال الذي يظل قائما والحال هذه، هل كان "شعر الرافعة"، ليقال لو وقف قائلوه قبل نشره على ما أسفرت عنه التحقيقات كاشفة أن سقوط الرافعة جاء بسبب وجودها في وضعية خاطئة؟! ففي النهاية، العبرة ليست أن تواكب الحدث شعرا أو بأي شكل من أشكال الإبداعالضعيف أو غير المقبول، فمواكبة الحدث وظيفة الإعلام وهو أولى بها، إنما العبرة أن تقول ما هو جدير أن يقالأو تصمت.