مصطلح أو مفهوم البيروقراطية من المفردات الحديثة نسبياً، إذ يمثل حيزاً ومكوناً أساسياً إلى جانب الأيدولوجيا في فهم وتحديد طابع الدولة الحديثة وآلياتها التي تمارس من خلالها القوى المهيمنة سيطرتها السياسية، وتكتسب شرعيتها عن طريق القبول والإكراه في الآن معاً، وفي هذا الإطار علينا التمييز بين مفهومين وإن كانا متداخلين غير أنهما يملكان استقلالهما النسبي. أعني بذلك مفهوم الدولة ومفهوم السلطة، هذا التمايز يتضح أكثر من خلال فهم وظيفة البيروقراطية ودورها ضمن بنية الدولة في المجتمعات المتقدمة، أما في العديد من بلدان العالم الثالث، فإن الحدود بين مفهومي الدولة والسلطة تكاد تكون معدومة، حيث تصادر السلطة الدولة والمجتمع في الآن معاً، وتتصدى نظريات النخب السياسية لقضيتين مختلفتين بعض الشيء من خلال طرحها لقضية العلاقة بينهما. أولاً: قضية القوى السائدة أو الطبقة المهيمنة. ثانياً: قضية جهاز الدولة والبيروقراطية ودور النخبة فيها، وتتفرع منها مسائل عدة مثل العلاقات السياسية بين مختلف عناصر التكوين الاجتماعي لمجتمع ما، وعلاقة وموقع البيروقراطية بالقوى الاجتماعية المسيطرة من جهة وعلاقتها بالأفراد (المواطنين) من جهة أخرى. وكذلك أوجه التماثل والاختلاف بين سلطة الدولة وجهاز الدولة والاستقلالية النسبية والنوعية للبيروقراطية إزاء القوى الاجتماعية والسلطة السائدة.. لفظة البيروقراطية أصلها (لاتيني) بمعنى حكم المكاتب وتستخدم هذه العبارة للتعبير عن حكم وتحكم المكاتب والموظفين في الحياة الاجتماعية، ولقد عرف قاموس الأكاديمية الفرنسية (1798) البيروقراطية بأنها القوة والنفوذ اللذان يمارسها رؤساء الحكومة وموظفو الهيئات الحكومية، وفي عام 1813 عرف القانون الألماني البيروقراطية بأنها السلطة التي تمنح للأقسام الحكومية وفروعها وتمارسها على المواطنين وكتب هارلد لاسكي معرفاً البيروقراطية بأنه مصطلح يستخدم لوصف النظام الحكومي الذي يشرف على إدارته عدد من الموظفين الذين لديهم قدر من القوة يمكنهم من التحكم في حريات المواطنين المدنيين (دائرة معارف العلوم الاجتماعية). لقد عنيت النظريات الكلاسيكية لدى تناولها مفهوم البيروقراطية بمعالجة الأسس الأخلاقية للسلطة السياسية والآثار المترتبة على نمو نظام الإدارة في بناء القوة على مستوى المجتمع الحديث ككل. فضلاً عن اهتمامها بالمشكلة على المستوى الفردي. فالبيروقراطية في رأي هيجل تحقق الصلة الدائمة بين الدولة والمجتمع. أي أنها الإطار الذي يربط بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، بينما مفهوم البيروقراطية عند ماركس يأخذ منحى آخر لأن البيروقراطية بالنسبة له تماثل الدولة قياساً وهي أداة الهيمنة التي تعتمد عليها الطبقة السائدة في المجتمع الرأسمالي مستخدمة في ذلك القناع الأيدلوجي فتبدو محققة للصالح العام وفهم موقف ماركس من البيروقراطية ذات صلة بفكرة الاغتراب حيث تبدو البيروقراطية للإنسان المقتلع من بنيته الأولية بمثابة قوة خارجية مستقلة وأداة سيطرة واستلاب. ومع أن البيروقراطية أداة ابتكرها الإنسان لتنظيم أوجه نشاطه إلا أنها تحولت إلى عالم مغلق على ذاته تسيره آليات وقواعد عمله وأسراره الخاصة. وفي الواقع فإن النقد الذي وجهه ماركس لمفهوم البيروقراطية كإحدى آليات الهيمنة الرأسمالية واقتراحه بضرورة تجاوزها والقطع معها في مرحلة الاشتراكية لم يتحقق في تجربة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي إذ بدلاً من اضمحلال وظائف الدولة وإضعاف آليات الهيمنة البيروقراطية جرى تفاقم للنزعة التسلطية في الجهاز الحكومي والإداري والحزبي والمنظمات الاجتماعية والثقافية والنقابية التي تحولت إلى ملحقات شكلية تابعة للسلطة المركزية. (انظر كتابات تروتسكي حول البيروقراطية والثورة والدولة) هذه النزعة البيروقراطية أسفرت عن بروز طبقة جديدة استأثرت بالامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعتبر ماكس فيبر من أهم علماء الاجتماع الذي أسس لمفهوم البيروقراطية والنخبة خاصة في مؤلفه (الاقتصاد والمجتمع). إن معالجة فيبر للبيروقراطية تبدأ من مفهوم قواعد التنظيم (النظام الإداري) وإن الهيمنة الإدارية تخضع لهذه القواعد كما أن عليها أن تراقب خضوع بقية الأعضاء لها وأهم مظهر للنظام الإداري هو تحديد صاحب الحق في إعطاء الأوامر أي أن السلطة الإدارية والإدارة مرتبطتان ببعضهما حكماً في نظره.