التفاضي أو التناص الفضائي هو من الجوانب المهمة التي ربما أغفلت في نظرية المزج؛ فمن خلال الأمثلة والنماذج التي قرأتها لحظت أن المزج عادة يتم بين فضاءين خامين بسيطين حيث تتم أولاً: إجراءات تحديد عناصر كل فضاء، ثم تتم المقارنة بين الفضاءين في الفضاء الجامع بينهما ثم يؤسس للفضاء المزيج الذي يفسر الرابط الإدراكي العرفني بين الفضاءين * * * ولكن المسألة قد لا تكون بهذه البساطة إذ إن الفضاءات قد تكون متفاضية مع فضاءات أخرى قبل المزج، ولو نظرنا إلى هذه المسألة في إطار مصطلح التشاكل الذي وظّفه كريماص بعد أن استعاره من حقل الفيزياء، وهو يستعمله للتأكيد على أن العناصر التي قد تبدو ظاهرياً متناقضة هي في الحقيقة متشاكلة دلالياً بفضل مبدأ التوسيع الذي يرتبط بالتعريف الخطابي لأن مكونات الخطاب يشرح بعضها بعضاً تارة عن طريق التوسيع والتكثيف، وأخرى بواسطة التعريف والتحديد.. مع انتقاد إسماعيل شكري هذه النظرة الكريماصية لأنها تنبني على تجاهل المقومات العرضية الإيحائية وعلى تجاهل التعدد المعنوي، ويؤدي ذلك إلى عدم القدرة على تفسير التشاكل المركب في ضوء العلاقات بين مختلف الحقول المعجمية والأطر المعرفية. * * * بالإضافة إلى عرض إسماعيل شكري رأى محمد مفتاح الذي وسّع التشاكل ليشمل تشاكل النصوص مع بعضها البعض ومع ثقافة الأمة، لأن أي نص ليس إلا إركاماً وتكراراً لنواة معنوية موجودة من قبل، ولذا فالتشاكل في النهاية لدى مفتاح هو تشاكل تداولي ويرجع إلى نواه دلالية واحدة وفق منظوره الدينامي هي الحياة - الموت، لأن التحليل التشاكلي الذي يقوم على التحليل بالمقومات يكشف عن بعض الثوابت الأنتروبولوجية الكونية.. ولا يقتنع إسماعيل شكري بهذا المفهوم للتشاكل إلا باعتباره مرحلة لانتقال ضروري من التشاكلين الدلالي والتداولي نحو مستوى تشاكلي تفاعلي سمّاه بالتشاكل (البلاغي - الدلالي) وتتمثّل فيه عدة مفاهيم تتعلق بالتشاكل الجهي، والتشاكل الفضائي والتشاكلين العرضي الأدنى والعرضي الأقصى.. وهذه المفاهيم تتعلق كما شرحها راستيي بالعلاقة المنطقية بين مكونات المفاهيم.. وفي المحصلة النهائية يرى إسماعيل شكري أن التشاكل هو آلية أساس لتشييد الجهات البلاغية.. ذلك إنه تكرار لنواة معنوية بإركام عناصر صوتية ودلالية وفضائية في مساق لساني أو بصري، وهذا ما يترتب عنه توليد معظم الأوجه البلاغية بواسطة التشاكل المتعدد من قبيل الاستعارة والطباق والمناقضة ناهيك عن التشاكلات الصوتية والفضائية التي توسم بالتناظر والتغاير والتقابل... ولئن كان شكري في كتابه «في معرفة الخطاب الشعري دلالة الزمن وبلاغة الجهة» يطرح مفهوم الجهة البلاغية كنموذج لمقاربة تحليل الخطابات عامة بما فيها الخطاب الشعري من خلال ربط مفهوم التشاكل بالزمن البلاغي، وذلك لا شك إضافة معرفية متميزة للبلاغة العربية ولتحليل الخطاب، إلا أنه لم يقف كثيراً عند مقولات البعد الفضائي العرفني سوى خطفة سريعة فيما أطلق عليه الانكماش الاستعاري.. وكيفما كان الأمر فإن الفضاءات العرفانية ترتكز أولاً على القاعدة الإدراكية وتبني عليها مقولاتها، وأظن أن مفهوم التشاكل هو أداة إدراكية، وكذلك الزمن في المقام الأول؛ ولذا لا بد من تنشيط قوالب إدراكية لفهم أكثر ولتحليل أعمق وأبسط... كما يجب أن يكون الأساس المعرفي للكثافة البلاغية ليس ما يتمثّل في مذخرات الإنسان المقولية والثقافية والإنثرويولوجية باعتبارها حصيلة تفاعله مع العالم، بل أولاً ما يتمثّل في المذخرات والآليات الإدراكية للفضاءات وحدودها وتمازجها... إن تحدين الفضاء كعملية إدراكية هي من الضرورة بمكان قبل أي إجراء مفهومي أو آلاتي لمقاربة الفضاء، وفي نظرنا يجب أن يشمل التحدين على فصل الفضاءات البسيطة، والفضاءات المتراكبة، والفضاءات المتفاضية، وهنا قد يحضر مصطلح التشاكل كمفهوم إجرائي لفصل تلك الفضاءات عن بعضها، إن الفضاء البسيط هو الفضاء الذي لا يحتوي على أي عناصر من خارجه، في حين أن الفضاءات المتراكبة هي تلك الفضاءات التي تحتوي على عدة فضاءات في داخلها، فمثلاً فضاء المدينة يحتوي على عدة فضاءات كالشارع والحديقة والمستشفى والمنازل، والشرطة، وسيارات الأجرة... إلخ، لكن فضاء سيارة الأجرة هو فضاء بسيط لأنه يحتوي على سيارة، لون خاص، عداد مسافات، سائق، موقف، بَيْدَ أن التعقيد الإداركي هو في إدارك الفضاءات المتفاضية وهذه الفضاءات هي الفضاءات التي تستعمل في العادة للتأثير في الخطابات وفي الحجاج وفي الإبداع الأدبي الأرقى بشكل عام. إن إدراك الفضاءات المتفاضية يحتاج إلى تنشيط قالب البحث عن الفضاءات المندسة أو الفضاءات المختفية أو الفضاءات المتنكرة، وهذه الفضاءات تحتاج إلى وضع مفهوم «بحثنة (بالنون) الفضاءا ت» للبحث عن تمثلات فضائية محتملة، وتتم البحثنة من خلال رصد التمثلات الممكنة للفضاء في عدة مستويات قد تتشابك للوصول إلى كشف الفضاء المندس. 1 - في تشاكل الأصوات منطوقة أو مكتوبة. 2 - في بناء الكلمة المورفولوجي. 3 - في التركيب الجملي. 4 - في الخطاب التداولي. 5 - في سياق الإنتاج والفضاء في سياق التلقي. إن بعض الأصوات تحمل فضاءات حينما تتكرر على سبيل المثال «الزاي» في نص من النصوص بما فيها من الأزيز وبما فيها من الاهتزاز وبما تبعث من كلمات أو صيغ ذات بعد فضائي إدراكي ففي «تؤزهم أزاً» تعود بنا إلى فضاء الكلمة وهو أزيز القدر أي غليانها فالزاي مكون فضائي من فضاء الطبخ في هذه الحالة، وهو يمثل مشهد القدر وهي تغلي وتصدر صوتاً، ومثل ذلك في «أزا» إنه تمثيل صوتي للفضاء الذي تغلي فيه القدر، ولا نشك أن الاهتزاز الجهري في الزاي وكتابة الزاي بنقطة تستدعي الفرق بينه وبين الراء لها دور في تمثُّل فضاء هذا الصوت في اللغة العربية.. ومثل ذلك في التركيب الجملي «تؤزهم أزاً» إنها تحاول تمثيل الفضاء بصورة أكثر إحساساً، بيد أن الفضاءين الآخرين هما الأكثر أهمية في تحدين الفضاء وفي عملية البحثنة حيث يتغير الفضاء المدرك بتغير الخطاب التداولي، كما أنه قد يكون في فضاء الإنتاج فضاءً محدناً ليصبح في فضاء التلقي فضاء محدنا آخر قد لا يكون بينه وبين وفضاء التلقي أي علاقة، وحتى نوضح ذلك أكثر نحلل مثال «هذا الجراح جزار» فهي كما قلنا فضاء مزيج ينبني على مقولة عدم المهارة بناء على التخالف في مقولة الوسيلة والغاية، ولكن هذه الجملة قد تدل في فضاء آخر على إتقان المهارة بناء على خطاب تداولي معين يمزج الفضاءين أي فضاء الجزارة وفضاء الجراحة بطريقة توحي بالسرعة في الإنجاز أو التعود على إجراء العمليات حتى أصبح الأمر كالجزارة، وقد حدث ذلك معي في عملية لأحد أقربائي إذ كان مدير المشفى يقول وهو يضحك: «إنها عملية خفيفة بالنسبة للطبيب.. إنه جزار ويردف ذلك بضحكة»، فسياق العبارة ولغة الجسد والضحك يوحي بأن مزج الفضاءين يقوم على إدخال مكون خطابي سياقي، ومثل ذلك يمكن أن يُقال إن الفضاء المزيج قد تغير من خلال سياق الإنتاج وسياق التلقي حيث تم نقل الفضاء المزيج إلى عكس الفضاء المزيج الذي يتبادر من العبارة للوهلة الأولى... وعلى ذلك فإن الفضاءات الإدراكية قد تتبدل بتبدل الإدراك وبتأثير الإنثروبولجيا والبيئة المحيطة وبتبدل سياق التلقي وسياق الخطاب، بل بتغيير الأصوات والكلمات والتراكيب الجملية... إن التأويلات المختلفة هي ناتج مزج فضائي إدراكي لدى المؤول قد يكون صحيحاً، وقد يكون اختراعاً وقد يكون خاطئاً.. ما حدث أن التأويل حدث وحدوثه هو وجود.. قد توجد فضاءات عديدة، ولكننا لسنا مجبرين أو أحياناً ليس لدينا القدرة على رؤيتها أو إدراكها، ولذا لا يمكن وقف عمليات المزج الفضائية أو إيجاد فضاءات ما يمكن هو تجاهل أو نسيان أو تناسي فضاءات معينة، وأكبر خطر على هذه العملية هو أدلجة الفضاء وحينئذ يتم المزج من خلال مرشح إيديولوجي يركب قبل عملية إدراك الفضاء، إن مقولة مثل مقولة «لحوم العلماء مسمومة» تتضمن المزج بين فضاء أكل اللحم، وفضاء انتفاد العلماء، ولكن ذلك يتم باستحضار الفضاء الأصل الذي يندس في كلمتي «لحوم» و»مسمومة»، ويستدعي ذلك أيضاً تفاضياً أو تناصاً فضائياً بين فضاء الغيبة، وفضاء أكل لحم الأخ الميت، والمزج بين الفضاءين هو عدم القدرة عن الدفاع عن النفس مع شدة وحدة وضراوة الهجوم في كلا الفضاءين. وهنا يستحضر متلقي الخطاب الآية القرآنية: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}.. مما يجعله يدرك أن العلماء يتعرضون بالنقد للأكل لكن لهم وضع خاص لأن المزج بين فضاء أكل لحم مسموم وفضاء انتقاد العلماء مما يؤدي إلى القدرة على الدفاع عن النفس في كلا الفضاءين، وهو بعكس ما تؤديه الآية والفضاء المندس. إن العبارة تتخذ للتحذير من انتقاد العلماء، وهي لا تحدد فضاء الغيبة بل مطلق الانتقاد، وهي هنا تعطيهم وضعاً كهنوتيا سحرياً أو أسطورياً يرتبط بالسم والدفاع التلقائي مما يجعل لهم هالة خاصة يختلفون بها عن الناس ولحماً خاصاً يختلف عن لحوم الناس، هذه العبارة استدعت اعتراضات كثيرة من باب أليست لحوم كل الناس مسمومة، ومن باب أن العلماء كائنات خطرة تقتل وتسمم البشر، وبالطبع العلماء تنصرف إلى حملة الدين، وقد تنصرف إلى حملة إيديولوجيا معينة... ما يهمنا أن عملية المزج تمت عن طريق تفضية تناصية، وقد اختلف المزج ونتائجه عن الفضاء المتناص الذي استدعاه المزج بين الفضاءين، بل كان يمثّل تشويهاً له أو استغلالاً له بطريقة ماكرة.. إن ذلك ليس إسقاطاً استعارياً بين المجالات بقدر ما هو مزج بين فضاءات تحتوي فيه بعض الفضاءات على فضاءات مندسة أو متضمنة فيها... وعلى ذلك فإن عمليات تحدين الفضاء وعمليات المزج الفضائي يلزم منها إضافة مكونات أخرى وألا تقتصر عملية المزج على أربعة فضاءات فحسب، فضاءان دخلان وفضاء جامع وفضاء مزيج، بل ثمة فضاءات مندسة أو فضاءات متفاضية أو متناصة يجب أخذها في الاعتبار عند عملية المزج بين الأفضية، ويجب أن نضيف إلى عملية التركيب والإكمال والبلورة عملية البحثنة عن الفضاءات المتناصة وعمل عجرة لها في التحليل المزج النهائي لأنها قد تكون الداعم الرئيس لكل العلميات المزجية التي تتم.