الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل.. ترتدي نوف عباءتها استعداداً للخروج، تتسلل إلى غرفة ابنها ذي السنوات الأربع، تقبّله على جبينه ويديه المنكفئة على نفسها، بيد مرتجفة وقلب مقبوض، يستفيق على صوتها وهي ترتّل دعواتها هامسة «اللهم احفظه بعينك التي لا تنام، يبكي مطالباً إياها برفعه من السرير وضمّه إلى صدرها. الشعور بالحرمان يتعمّق في داخلها، قابضة دمعتها، وهي تسلّمه مرغمة لوالده، وتمضي على عجل لتلحق الباص الذي ينتظرها خارج منزلها. في تلك الليلة تمنّت لو تأخر سائق الحافلة قليلا، علّها تحظى بدقائق مع ابنها الذي ودّعته بحرقة، لتركب الباص وتلقي تحية عابرة على سائقه الذي لا تعرف سوى اسمه الحركي «أبو محمد» ورقم جوّاله، تستودع الله نفسها، وتبدأ بترتيل دعاء السفر (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ).. وتكمل وهي تشد على أسنانها «اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب بالمال والأهل والولد». تمضي وأمامها على خريطة الطريق 400 كلم لتقطعها في طرق صحراويّة قاحلة، تمشّطها وهي مرتمية باستسلام في الجزء الخلفي لحافلة ظاهرها لا يشبه باطنها، إِذْ اقتُلعت مقاعدها، وتحولت إلى أسرة قاسية، تهتزّ مع كلّ مطبّ أو صخرة صغيرة تمر المركبة فوقها، ويتحول عدم استقرارها إلى قاعدة، وثباتها إلى استثناء. لا تعرف أين هي، ولا ما يحدث حولها، فستائر النوافذ البنفسجية السميكة تحيط بها من كل جانب، مخفّفة عنها استيعاب عتمة ساعات الفجر الأولى، وعزلة المكان ووحشته، فلا تملك عيناها سوى أن تغمضهما قسرا، علّ قلبها يغفو معها عن تذكّر دمعة طفلها، وهي تودعه ولا تدري هل سيسعها العمر أن تروي له حكاية ما قبل النوم التي يفضّلها دون باقي القصص مرة أخرى؟ أم أن لوعورة الطريق، وبعد المسافات، وافتقار ذلك الصندوق المظلم الذي يطلق عليه مجازاً «حافلة» لأدنى معايير السلامة، رأياً آخر وكلمة عليا؟ تسند جسدها النحيل على أرضية الباص المغطّاة ببطانيات مزركشة تفوح منها رائحة العطونة، وتتدلى من فوقها بقايا أحزمة أمان تمّ قصّها والعبث بوضعها الأصلي، وبجانبها أجساد منهكة لمعلّمات شاءت أقدارهنّ أن يتعينّ في قرى نائية تبعد بعضها 500 كلم عن مقر إقامتهن، فهن بطلات غير متوّجات لقصص تحمل في طياتها معاناة وظيفية وتجاهلاً حكومياً. قضية المعلمات في السعودية ملف شائك ظل عالقاً ما يقارب ربع قرن بانتظار حل يوازي ما صُرف من الكلام والوعود حوله. هذا التحقيق يلقي أضواء كاشفة على مجموعة من القصص لمعلمات تنوّعت مآسيهن، فكن ضحايا حوادث مرورية شنيعة حينا، وضعف في الرقابة الأمنية والفنية على المركبات وسائقيها حينا، وقضايا تحرش محاصرة بجدران شاهقة من الصمت الاجتماعي أحيانا، وحكايا ترزح تحت وطأة الشتات والضياع النفسي والأسري دائماً. ركبت معدة هذا التحقيق إحدى حافلات نقل المعلمات لكتابة هذا التحقيق في رحلة تجاوزت 800 كلم، انطلقت من الرياض الساعة الثالثة فجراً والظلام لا يزال يلف شوارع المدينة، وإذ بأبواب بيوت المعلمات تنفتح بحذر وهدوء واحداً تلو الآخر، ليصعدن إلى الباص ويمتطين مصاعب رحلة جديدة إلى قرية تدعى «الحصاة» التابعة لمحافظة القويعية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من شخصياتهن ونفسياتهن المتعبة حد الإنهاك من بعد المسافة، ووجع الشتات وعذاب انتظار قرار النقل. ولإماطة اللثام عن زوايا معتمة في التحقيق، أجرت معدته استبياناً مع خمسين معلمة يعملن في قرى نائية للإجابة عن أسئلة تتناول الجوانب النفسية والوظيفية، وأخرى تقيس مدى الرضا العام تجاه بعض القرارات التي خرجت بها وزارة التعليم وإن كان عبر حلول وقتية غير جذرية، وتبيّن من نتائجه تفوق جوانب على أخرى بأهميتها وحضورها في واقع المعلمات خصوصاً تلك التي لها أبعاد نفسية وأسرية. المهنة الأكثر شعبية بين نساء المملكة تحظى مهنة التدريس في المملكة بإقبال كبير من قبل النساء، لعدة أسباب أهمها: الأمان الوظيفي، قصر وقت الدوام، القبول الاجتماعي الذي تحظى به، المدخول المادي الجيد، وأخيراً كثرة الإجازات والعطلات. ويقدر العدد الإجمالي للمعلمات في المملكة حسب وزارة التعليم (281.575) أما اللاتي يقمن بالتردد اليومي (التنقل بالمركبات من سكنهن إلى مدارس خارج سكنهن، سواء إلى مدن أخرى، أو قرى حاضرة أو نائية) فيقدر ب (45.399). ورُب من يسأل، ما الذي يجعل هؤلاء المعلمات يقبلن على هذه المهنة الملغمة بأشكال متعددة من المصاعب والمخاطر، ويتركن بيوتهن الآمنة، وأسرهن الصَّغيرة خلفهن، ليلقين بأنفسهم في شباك المجهول؟ تقول إحدى المعلمات: «قبولي بهذا الواقع المرير، جاء بعد سنوات طويلة تجاوزت الثماني سنوات من انتظار قرار التعيين، الفراغ قتلني، وشعوري بالعجز واللا جدوى كان يتضاعف كل عام، وسط أسئلة أسرتي المتكررة ودعواتهم التي تتصاعد إلى السماء وهم يتصفحون أسماء المقبولات المنشورة في الجريدة بحثاً عن فرحة وجود اسمي بينهم». وتضيف:» البحث عن مصدر رزق كريم، يشكل أحد دوافع القبول بتلك المهنة، أما الشعور بأهمية إثبات الذات، والحصول على تقدير اجتماعي ونفسي فأمر لا يقل أهمية». يشققن طرق الظلام لنشر نور العلم بعد ساعتين متواصلتين من التنقّل في طرقات مزدوجة ومحفوفة بالعتمة والخطر، توقّف سائق الحافلة في إحدى المحطات القليلة على الطريق لأداء صلاة الفجر، ترجلت المعلمات من الباص، وهنّ يغالبن النعاس والتعب، وتوجهن إلى إحدى الغرف المنزوية على جانب المحطة، بعدما تحولت إلى مصلى للنساء، دلفن واحدةً تلو الأخرى داخل مصلى ذي سجاد أحمر تراكمت عليه الأتربة، يسلّط عليه مصباح أبيض يصدر أزيزاً متواصلاً. ظلّت إحداهن إلى جانب الباب وعيناها تراقب المشهد، لتحرس زميلاتها أثناء الصلاة. تقع المحطة في منطقة نائية وغير مراقبة أمنيا، تمرّ الشاحنات لتعبئة الوقود، أو للاستراحة حتى موعد شروق الشمس، ما يجعل فرصة تعرّضهن للتحرّش احتمالاً غير بعيد التحقق، ما دفع إحداهن للاحتفاظ بعبوة في داخلها ملح وماء وخل وفلفل أسود، تتسلح بها علّ ذلك يحميها من غدر قطّاع الطرق أو ركاب تلك الشاحنات العابرة كما قالت. بيان، معلّمة تعمل منذ ثلاثة أعوام في إحدى مدارس قرى «القويعية»، وما برحت تنتظر قرار نقلها، واختصار عذابات الخوف، وكوابيس التحرش الذي تخشى الوقوع في شباكه، تقول:» أحمل في حقيبتي صاعقاً كهربائياً. لم أتصور يوماً أني سأجبر على حمله، ابتعته من أحد حسابات موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام»، وواجهت صعوبة في عملية طلبه وتسليمه، حيث طلب مني البائع أن أتواصل معه عبر برنامج (كيك) حتى لا يضّطر لكشف رقم هاتفه، كما اشترط إرسال صورة للوحة سيارتي قبل أيَّام من عملية التسليم في الموقع الذي يحدده هو». تضيف بيان: « الصاعق الكهربائي من الممكن أن يقتل إذا لامس مناطق حساسة في الدماغ والقلب، أما إذا تم توجيهه لمناطق أخرى فإنه يفقد الوعي لمدة 30 دقيقة». هذا الصاعق، تتابع بيان، هو «سلاحي الذي أجبرتني طبيعة عملي لاقتنائه لحماية نفسي وعرضي، الذي يهدده سائقو الحافلات غير المرخصين حينا، وركاب تلك الشاحنات المجهولة أحياناً أخرى.» وحول جرأة استخدامه تجيب ضاحكة: «لا أعتقد بأني أتحلى بالجرأة لاستخدامه، حيث أخبرت عائلتي في إحدى المرات بأني سأستعمله لصعق نفسي، علي أفقد الوعي ولا أضطر لمعايشة أي موقف اختطاف أو اغتصاب محتمل». ورغم أن بيان لازلت في العقد الثاني من عمرها، إلا أنها تؤكد أنها كتبت وصيتها، وحفظتها لدى محامي. استكملت المعلمات الرحلة، بانتظار انقشاع الفجر، وتسرّب أشعة الشمس من بين ثقوب الستائر السميكة، ليتضاءل الخوف داخلهنّ من فرص الارتطام بقطيع سائب من الجمال العابرة، أو نعاس غادر يباغت سائق الباص، ويفقده سيطرته على المركبة. «ألا يكفي أننا مستغلات من قبل شركات النقل التي تجبرنا أن ندفع ألفي ريال سعودي شهريا، في ظل غياب مريب ومخزٍ عن وجود نقل حكومي لائق وآمن للمعلمات» تصيح شريفة المعلمة الأربعينية، وهي تغالب دموعها، مستحضرة معاناة ابنتها التي ولدت وهي تعاني من إعاقة عقلية، وتردي حالتها الصحية، جراء غياب الأم المستمر عن البيت، وعدم تمكنها من مرافقتها إلى مواعيدها الطبية المستمرة، وتؤكّد: «إعاقة ابنتي قدر تقبلته وتعايشت معه منذ زمن طويل، لكني لا استطيع التخلص من تأنيب الضمير الذي يباغتني بين الفينة والأخرى، خصوصاً وأنا أشهد تدهور حالتها الصحية كلّ يوم، إِذْ ضعف بصرها، ووهنت عظامها، وأصيبت بفقر بالدم». وعلى الرغم أن شريفة تستحق النقل حسب اللوائح التنظيمية لوزارة التعليم بسبب ظروف ابنتها ذات الاحتياجات الخاصة، إلا أنها تؤكد أن الجهة المعنية «تستمر في تجاهل طلبها» رغم تقديمها إياه منذ سنوات. وتؤكد وزارة التعليم في تصريحات خاصة بمعدّة التحقيق، حول تأخر نقل بعض المستحقات للنقل: « النقل ليس حقاً للمعلمة، لأن تعيينها وتوجيهها لمكان ما جاء بناءً على رغباتها التي قامت بتسجيلها عند طلب التعيين. لكن بعض المتقدمات يقمن بطلب التعيين باختيار أماكن بعيدة وغير مرغوبة رغبةً في سرعة التعيين وزيادة فرصه، كما أن التعيين وفق الحاجة. والقاعدة في ذلك هي أن الموظف هو من يتبع الوظيفة وليست الوظيفة هي من تتبع الموظف، لذا على المتقدمات دراسة موضوع اختيار الرغبات دارسة وافية وفق ظروفها الاجتماعية وإمكانية سكنها في مقر عملها أو قريب منه». وصل الباص إلى قرية «حصاة قحطان» التابعة لمحافظة «القويعية»، الساعة السابعة 7:35 دقيقة صباحا، بعد انقضاء أكثر من أربع ساعات ثقيلة من القيادة على الطريق بسرعة تتراوح بين 140 و160 كلم في الساعة، توقّف الباص أمام بوابة المدرسة التي كانت مقفلة، ما استدعى «نوف»، التي تشغل منصب المديرة، للاتصال بالمستخدمة الطاعنة في السن لتفتح البوابة، وتعلن رسمياً بدء يوم دراسي جديد. توافدت الطالبات، واكتمل عددهن الذي لم يتجاوز الثلاثين طالبة، وقفن في باحة المدرسة وافتتحن الإذاعة بترديد النشيد الوطني السعودي، ومن ثم تقديم الفقرات المتبقية من الإذاعة الصباحية بشكلها التقليدي. عيون المعلمات المثقلة بالتعب تراقب بضجر، بينما ظلت إحداهن في غرفة المعلمات القابعة في إحدى زوايا المدرسة غير قادرة على المشاركة وهي تعتصر ألماً بسبب مغص طارئ أصاب معدتها. صمتت الإذاعة، فتوجهت المعلمات للاطمئنان على حالة زميلتهن سارة، فانفجرت باكية في مشهد غير متوقع: « ما ذنب ذلك الجنين الذي يسكن أحشائي، ليتورط في عذابات الطريق التي أتعرض لها من اهتزازات وتخبطات متواصلة في المركبة؟ إني أعاني من نزيف في رحمي لم يتوقف إلا قبل أيَّام، بسبب وضعية الجلوس البائسة الذي اتخذها داخل الباص». تضيف سارة الأم لطفلين، وهي تعارك دموعها: «وهل يعقل أن يَتمَّ تعييني على بعد 700 كيلو من مقر سكني في الأحساء، هل يعقل أن نبني جيلاً في مكان، ونتشتت جيلاً في مكان آخر». سارة اضطرت للانتقال وحيدة إلى منطقة «القويعية» التي تبعد 200 كلم عن القرية التي تعمل فيها منذ 3 أعوام و700 كلم ونيف عن مقر إقامتها الأساسي في الهفوف. بنيان هزيل ومعايير متدنية استكملت معدة التحقيق جولتها برفقة المديرة في أنحاء المدرسة التي كانت تضم فصولاً متباعدة، تتوسطها باحة شاحبة وتحيط بها مساحات من الحجر المتراكم، والنفايات المتناثرة بإهمال على جنباتها. اختتمت الجولة بالدخول إلى دورات المياه. كانت الرائحة تحاصر المكان، كلما أجبرتنا الفصول المجاورة المرور بجانبها، وكأن تلك الرائحة الكريهة المنبعثة منها تحضّر المارة لما هم بصدد رؤيته لاحقاً من دورات مياه تفتقر لأدنى معايير الاستخدام الآدمي، بجدران غامقة وموحشة، وغياب للمغاسل الطبيعية التي تتوافر في مدارس مدن المملكة الكبرى، ليستعاض عنها بمغاسل أرضية للوضوء، بصنابير صدئة، على أطرافها هالة برونزية لها ملمس خشن، أما غرف قضاء الحاجة فلم تتجاوز الغرفتين إحداهما خصصت للمعلمات، وهي الأقل كارثية رغم بشاعتها، والأخرى للطالبات بباب حديدي أسود، وأرضية غير مبلطة، يتخللها مستنقع صغير من المياه التي تتقاطر من رشاش المياه، وتفوح منها رائحة تُزكم الأنوف. تعلق إحدى معلمات المدرسة قائلة: « لقد توقفت منذ فترة طويلة عن استخدام دورة المياه، بعدما أصبت بالتهاب بولي حاد جراء قذارة المكان، وتراكم الأوساخ وما خلفتها من فطريات وجراثيم». وتتابع ساخرة: «لعل أكثر صور التناقض المؤلم تتجسد في ترديد الطالبات في إذاعة الصباح أنشودة «الولد النظيفُ، منظره ظريف، وكلنا نحبه، ودائما نجله» ومن ثم اصطدامهن بدورات مياه لا تمت لمفهوم «النظافة» والمنظر الظريف الذي نتغنى به بصلة!» إن لم أمت بالباص مُتّ بعقرب! تروي سارة، إحدى معلمات المدرسة، حادثة غير اعتيادية حصلت معها قبل أشهر. كانت تجلس على كرسيها الخشبي المتواضع في غرفة المعلمات لتصحيح أوراق الطالبات، فشعرت فجأة بألم صارخ يندلع من أسفل قدمها، وتتصاعد حرارته إلى سائر جسدها، فخفضت رأسها فوراً نحو موضع الألم لتجد عقرباً بريا، وقدماً متورمة من لدغته، فصاحت مستغيثة بزميلاتها اللائي سرعان ما استنجدن بالسائق الذي كان نائماً في المسجد المجاور، نقلت مباشرة إلى أقرب مركز صحي، يبعد عن مقر المدرسة 40 كلم، وسط حالة هلع واختناق انتابتها، فأعطيت مصلاً مضاداً للسموم، وخلال دقائق من حقنه في عروقها، بدأت تشعر بتحسن تدريجي حتى اختفت أعراض اللدغة كلياً. تقول سارة معلقة: « هل من المعقول أن يَتمَّ تعييننا في مناطق نائية ومعزولة دون توفير مراكز صحية قريبة على أهبة الاستعداد لإنقاذنا في حالات الطوارئ؟! نحن نواجه أشكالاً مختلفة من المصاعب والمخاطر التي من الممكن أن ندفع حياتنا ثمناً لها، لكن لا أحد يسمع أصواتنا المكلومة التي تبعد مئات الكيلومترات عن مكاتب المسؤولين الفارهة في الوزارة». رغم هذه المباني الهزيلة الضيقة، وتلك الظروف الوظيفية المحفوفة بالبؤس والخطر، لم تكن تلك قضية المعلمات يوما، إِذْ كانت مأساتهن تختزل في نفسياتهن المدمرة، ووجوهن التي تراكمت فوقها طبقات اليأس من انتظار بشارة «النقل»، وقلوبهن التي ترتجف من حادث يعيدهن جثثاً هامدة إلى بيوتهن وأبنائهن، كما حدث مع غيرهن من المعلمات خلال سنوات سابقة. أضلاع تتكسر ودماء تنزف على قارعة الطريق على «طريق الموت» كما يسمونه، تحطّمت أضلاع عبير، المعلمة في قرية «حصاة قحطان» كانت تحمل في أحشائها جنيناً في شهره السابع. حادث مروري عاشت فصوله المروعة يوم الاثنين السادس من أكتوبر / تشرين الأول عام 2013 وهي متوجهة برفقة أخيها من الرياض إلى القرية بسيارته الخاصة، على طريق مزدوج وخطير، حينما اعترضت طريقه سيارة مسرعة في جنح الظلام يقودها رجل اتضح لاحقاً أنه يعاني من ضعف بالبصر، ما خلق ظروفاً مثالية لحادث ارتطام غيّر مسار حياة عبير إلى الأبد. الأطباء أكدوا أن خمسة من أضلاع قفصها الصدري تكسرت، وأصيبت بشرخ في الكبد، ونزيف في الرئة، كما أن الفقرة الخامسة من عمودها الفقري تعرضت لضرر بالغ، بالإضافة إلى كدمات ورضوض متفرقة. أثناء الحادث فقدت عبير وعيها، وتم نقلها وأخيها إلى مستشفي القويعية، وأدخلت فوراً إلى العناية المركزة وهي في حالة غيبوية كاملة، ومن ثم نقلت إلى مستشفي الحبيب الأهلي في الرياض، حيث تم تنويمها لمدة 16 يوما، لتدارك الآثار الخطيرة التي تعرضت لها. تقول عبير: «طالبت بنقلي بعد تضرري من الحادث، إِذْ يحق للمعلمة طلب نقل بعد التعرض للتضرر، وكأن الوزارة تنتظر تعرضنا لحوادث مميتة ننجو منها بأعجوبة، حتى تشفق على حالنا، وتعتمد قرار نقلنا والحدّ من معاناتنا، ولكني تفاجأت بأن المسؤولين في الوزارة أخبروني بأن طلبي رفض، كوني لم أقدم الطلب وأنا على سرير الموت في المستشفى، وتتساءل عبير: «كيف لي أن أفعل ذلك وأنا مسجونة في سرير لا أعلم إن كنت سأفيق منه وأزاول حياتي بعده من جديد؟!» اليوم، وبعد مرور أربعة عشر شهراً من وقوع الحادث، يرفض زوج عبير أن تعود إلى مزاولة عملها، رغم أنه دعمها في بداية الأمر، محترماً رغبتها خصوصاً أنها انتظرت هذه الوظيفة أكثر من ثلاث عشرة سنة. يقول أبو عبد الله: «أحمّل مسؤولية تعرض زوجتي لهذا الحادث الشنيع لوزارة التعليم، التي ترمي فتياتنا في هذه القرى من دون توفير مواصلات أو تأمين سكن، وتجبرهن على قطع طرق طويلة وصعبة، قد يتعرضن فيها لسيول وانهيارات جارفة دون وجود مراكز صحية أو دوريات أمنية كافية». ويضيف: «لطالما اعتبرت أن زوجتي في جهاد، أقدّره وأثمنه، لكني أرفض تماماً أن تعود إلى التدريس، وإن قررت أن تعود إليه فهي تحكم على زواجنا بالنهاية، وقد توصلت لهذه المعادلة الصعبة، لأني لا أريد أن أتحمل وزر ذنب نشأة أبنائي بلا أم، وأرفض أن ألقي بحياة أسرتي إلى تهلكة ذقت مرارتها سابقاً «. وحول إصرار وزارة التعليم على افتتاح مدارس في مناطق نائية غير مؤهلة ومجهزة بالخدمات الأساسية كافة، تعلّل الوزارة ذلك بضرورة توفير خدمات التعليم في جميع الأماكن التي يوجد بها مواطنون رغبةً في انتشار التعليم في جميع مناطق المملكة، إِذْ كان من نتائج ذلك وفق الوزارة «تقليص نسب الأمية على مستوى المملكة بشكل كبير وبسرعة فائقة من خلال تحفيزهم على الالتحاق بالتعليم وعدم التسرب منه والمساهمة في عملية التنمية، وهذا الأمر مطلب أساسي وسيادي للدولة، وعند النظر لهذا الموضوع من خلال هذا الزاوية يحدث تفهم لانتشار المدارس وتوجيه المعلمين والمعلمات لها في طول البلاد وعرضها بما فيها المناطق النائية». وتؤكد الوزارة: « أن شروط وضوابط افتتاح المدارس معتمدة من اللجنة العليا لسياسة التعليم، وموافق عليها من المقام السامي، وهي مدروسة بعناية فائقة، كما أن الوزارة تعمل مراجعة مستمرة لأوضاع هذه المدارس وتغلق وتضم المدارس التي تفتقد مع التقادم شروط وضوابط بقائها، وتم إغلاق وضم هذا العام ما يقارب (160) مدرسة». موت مجاني على الطرقات في تلك الليلة تمنى الرجل المكتهل لو حدث شيء مختلف ينبهه من الكابوس الرابض على صدره. زوجته الخمسينية تربت على كتفه قائلة «إن الله هو الحافظ» محاولة تهدئته وهو يودع ابنته «تهاني» قبيل أذان الفجر، موعد ذهابها اليومي إلى قرية تدعى «خريص» تبعد ساعة ونصف الساعة إلى ساعتين من منطقة سكنها في الهفوف. الشعور بالعجز يتعمّق لدى والدها، مع تضخم العبء الاقتصادي، وتراكم الديون المالية على كاهله، ما أجبر ابنته على القبول بتلك الحافلة التي تشبه صندوق نقل التوابيت، كخيار يتيم لإيصالها للهجرة، ومزاولتها مهنة لطالما حملت لها شغفا، وأمنت بقدرتها على بناء جيل متسلح بالعلم والمعرفة. لكن لم يدر في خلدها يوماً أنها قد تدفع روحها ثمناً لهذا الشغف. تعطل الباص في ذلك اليومي الشتويّ البارد وسط أرض صحراوية جدباء، كان ذلك علامة فارقة في حياة تهاني، وحياة أسرتها التي لم يجف دمع أفرادها بعد ذلك اليوم، إِذْ اضطر السائق إلى الاتصال بشركته لينقل لهم نبأ تعطل الباص، ويطلب منهم المساندة والدعم، وسط قلوب بدأت تدق خوفاً وقلقا، وألسن تلهج بالدعاء بأن يلطف الله بهم ويمضي يومهم على خير. في تلك الأثناء، اتصلت تهاني بوالدتها لتخبرها بأنها ستتأخر عن موعد وصولها المعتاد، ما دفع والدتها لتطلب من زوجها الذهاب ليجلب ابنته ويعود بها إلى المنزل. لم تلبث المعلمات طويلاً حتى وصلت السيارة البديلة التي تم إرسالها من قبل شركة النقل. ركبت المعلمات السيارة من نوع «سوبر» والتي شبهها والد تهاني ب «سيارة نقل البهائم»، كان السائق يقودها بسرعة جنونية توحي بالاستهتار بأرواح الراكبات، ما أفقده لاحقاً زمام السيطرة على المركبة حين انفلتت من قبضته، وانقلبت عدة مرات على الطريق. توقف العالم من حول المركبة، سالت دماء، ولفظت روح بريئة أنفاسها الأخيرة. عادت تهاني إلى مدينتها جثة مضرجة بالدماء وملفوفة بقماش أبيض تلطخ بدمائها. هذه الوقائع ليست من نسج الخيال، بل هي محض ما رواه والد تهاني الستيني، الذي دفعته الحاجة المالية الملحة إلى تقديم ابنته الأخرى سارة قرباناً محتملاً لمهنة باتت تحصد أرواحاً بريئة على «طريق الموت». بصوت مجروح وقلب نازف، قال أبو تهاني: «الله يلعن الحاجة اللي دفعتني أن أقبل بهذه الظروف لبناتي، والله إن المرحومة تهاني ما تغيب عن بالي ولا لحظة، ولولا عمل سارة كمعلمة اليوم، كان بسطت سجادتي أمام المسجد وعشت وأسرتي على صدقات أهل الخير». أما سارة فتعودت أن تخبز حزنها وتقتات عليه كل صباح وهي في طريقها إلى القرية، حينما ترى ظل أختها ثقيلاً موحشاً في تفاصيل الرحلة كافة «طيف تهاني يرافقني في مكان، أرى وجهها الطيب في تضاريس الطريق، وملامح كل معلمة مكافحة وطموحة، وفي تلك الوسائد التي غصت بدموعي على فراق روحها التي رحلت مبكراً». وحينما سألنا والد تهاني إن كان قد تلقى أية تعويضات مالية سواء من شركة النقل أو وزارة التعليم نفي الموضوع قائلاً: «لم أتسلم ريالاً واحدا من أي جهة، ولم يتصل بي أحد من الجهات المسؤولة ليعزيني أو يواسيني بفقد فلذة كبدي»، مؤكداً: «جميع أموال الدنيا وكل عبارات المواساة البشرية لن تعيد لي ابنتي أو تطفئ لوعتي على رحيلها». وعلى خلاف ما ذكره والد تهاني، تؤكد وزارة التعليم «أن للمعلمات المتوفيات في رحلات الطريق استحقاقات متعددة منها أن أسرتها تستحق 80 في المئة من آخر راتب تقاضته كراتب تقاعدي لورثتها مهما كانت خدمتها. وتعويض قدره 100.000 ريال عن الوفاة. بالإضافة إلى إعانة تصرف لكل واحد منهم بشكل شهري إلى أن يتخرجوا» علماً بأن هذه التعويضات لا تشمل من تضررت جسدياً من حادث مروري. نوبات هلع واكتئاب ورهاب ما بعد الصدمة وحول الأضرار النفسية لمن يخضع، كالمعلمات، لمخاطر وتهديدات متواصلة، يعدّد الطبيب والاستشاري النفسي في مستشفي الملك عبد العزيز للحرس الوطني في الرياض د. جمال الطويرقي، قائمة من الأعراض والأمراض النفسية المحتملة التي قد تصيب المعلمات، اللائي يتعرضن يومياً لجملة من الأخطار والمصاعب أثناء رحلات الطريق إلى الهجرات البعيدة، والقرى النائية، دون غيرهن من المعلمات، وما يرافقها ذلك من ضغط مستمر وشعور مكثف بالخوف والقلق من فقدان الحياة، أو التعرض لحوادث مرورية قد يدفعن حياتهن ثمناً لها، منها نوبات الهلع أو ما يعرف ب «Panic Attack» ما يدفع بعضهن لإدمان المسكنات والمهدئات النفسية، نظير إحساسهن باليأس وفقدان الأمل. فضلاً عن ذلك، ثمة أمراض أخرى محتملة هي متلازمة ما بعد الصدمة (PISD)، فانتشار أخبار حوادث المعلمات، وتفاقم هذه الظاهرة، ومعايشة بعضهن هذه المآسي، من حالات وفاة أو إعاقات دائمة أصابت زميلاتهن، ستسهم بالضرورة في تزايد أعراض هذا المرض النفسي الذي يعرّف بأنه: «رد فعل لاحق محتمل من معايشة حدث مؤلم واستثنائي كتحرش جنسي، أو اغتصاب، أو اعتقال، أو تشخيص مرض مستعصٍ، أو وفاة». ولفت الطويرقي إلى احتمال تراجع أدائهن الوظيفي والأكاديمي، «بسبب روحهن النفسية المحبطة والمهزومة»، عازياً الأمر برمته إلى تقصير» دور وزارة التعليم في توفير بيئة وظيفية سليمة وقادرة على إنتاج جيل متحفز وطموح من الطالبات. استبيان كشف استبيان أجرته معدة التحقيق مع خمسين معلمة يعملن في قرى نائية، أن 97 في المئة من المعلمات يشعرن بالقلق من فقدان حياتهن في إحدى رحلات الطريق إلى المدرسة، في حين أكدت النسبة ذاتها أن رحلات الطريق أثرت على صحتهن العامة نفسياً أو جسديا، بالإضافة إلى أن نسبة 74 في المئة من المعلمات يعتقدن أن وظيفتهن كمعلمات خارج منطقة سكنهن لعبت دوراً سلبياً على حياتهن بنسبة كبيرة، في حين أثر ذلك بنسبة متوسطة على 14 في المئة منهن. وحول مكافأة بدل النقل التي يتلقينها، سألت معدة التقرير إن كانت المعلمات يشعرن بأن مكافأة بدل النقل كافية، فكانت نسبة اللاتي أجبن بالنفي 100 في المئة. من جانب آخر صنفت 48 في المئة من المعلمات تجربتهن بالجيدة، و28 في المئة مقبولة، و12 في المئة ممتازة و12 في المئة سيئة. وعن مدى رضى المعلمات عن وظيفتهن الحالية، تطلعت 72 في المئة من المعلمات إلى تغيير وظيفتهن، إن سنحت لهن فرصة في المستقبل، في حين أكدت 28 في المئة من النسبة المتبقية عدم رغبتهن في تغيير وظيفتهن. المعلمات بين سائق متحرش وقانون غائب في رحلة الإعداد للتحقيق، تواصلت معدّته مع عدد كبير من المعلمات ممن يعلمن في قرى نائية، وسألتهن إن تعرضن خلال سنوات عملهن إلى حادثة تحرش سواء جسدي أو لفظي أو معنوي، فنفت بعضهن الموضوع، وامتنعت الأخريات عن الرد، إِذْ لا يزال الحاجز النفسي سميكاً ومرتفعا، أمام رغبة بعضهن في التعبير والإفصاح عن هذه القضية التي ما برحت محاطة بسياج من الريبة والخوف، وهذا ما أكدته إحدى نتائج الاستبيان، إِذْ فاقت نسبة اللاتي أكدن أنهن لم يتعرضن للتحرش 85 في المئة في حين ظلت النسبة المتبقية تتراوح بين «نعم» و»أحيانا». بيد أن بعضهن عبر بشجاعة وصراحة عن مواقف مخيفة تعرضن لها خلال رحلات الطريق. ولعل أكثر ما يلفت الانتباه، هي قصة إحدى المعلمات التي رفضت كشف هويتها، إِذْ تقول: «على الرغم من طول المسافة وما يرافقها من هم وتعب، إلا أن عيني عجزت عن النوم في ذلك اليوم وكأنها تنبهني لكارثة على وشك الحدوث، فجلست منتصبة ومن حولي زميلاتي اللاتي كنّ يغططن في نوم عميق، وفتحت طرف النافذة أتأمل طريقاً بت أحفظ تعرجاته وصحاريه جيدا، إلا أن سائق الباص من جنسية عربية أفريقية، انحرف في منتصف الطريق إلى القرية عن توجهه، وسلك طريقاً لم تطأه عجلات المركبة يوما، فسألتهُ باستنكار واستغراب عن وجهتنا فامتنع عن الإجابة ضاحكا، فصرخت مطالبة إياه بالتوقف، والعودة إلى طريق القرية المعتاد، لكن رفضه كان يوحي بنوايا خبيثة للاختطاف، ففتحت الستارة الحمراء التي كانت تحول بيني وجسده، وخلعت وشاحي الأسود الذي كنت ألفه فوق رأسي، ولففته على عنقه وسط صيحات من الصراخ والهلع التي انتابت المعلمات في الباص، فاحمرت عيناه، وتورمت عروقه، حتى كدت أخلع عنقه من شدة الإحكام، مهددة إياه بالقتل إن لم يهدئ المركبة ويقف جانبا، فانصاع لطلبي صاغرا، ونزلنا على وجه السرعة وقلوبنا تنتفض هلعاً من هول الصدمة، حتى وجدنا أنفسنا في منتصف طريق مهجور، لم يخلصنا منه إلا مواطن بدا وكأنه في العقد الخامس من عمره، تعاطف معنا وأوصلنا إلى القرية، وسط نوبة من البكاء والصراخ التي انتابت بعضنا لساعات بل أيَّام، أما بالنسبة لسائق المركبة فأغلق هاتفه وذهب مع الريح، من دون أن يظهر له أثر. وحول دور شركة النقل في ذلك أجابت: « كثير من شركات النقل ترفض إيصالنا لمناطق بعيدة ونائية، ما دفع بعض السائقين المستقلين بمركباتهم غير المرخصة للتطوع لخوض تلك الرحلات اليومية، مقابل مبلغ مالي مرتفع، نظير تقديم خدمة التوصيل ذهاباً وإياباً إلى القرية وهذا ما حدث معنا». طرق غير مؤهلة ونقل حكومي غائب عن المشهد مررن بتضاريس جغرافية متعددة، حفظن علامات الأرض، وزرعن صداقة ناشفة مع رؤوس الجبال وبطون الأودية، عبر رحلات يومية يخضنها وأرواحهن على أكفهن، في طرق تفتقر للمراقبة الأمنية أو المراكز الصحية، على الرغم من ارتواء اسمنتها بدماء المعلمات ودموعهن، حيث يعبر بعضهن مئات الكيلومترات من دون توافر أي نقطة تفتيش على الطريق، أو مركز صحي مجهز يسعف، وغياب تام لشبكة نقل حكومي آمنة ولائقة. تؤكد أمل، المعلمة في إحدى قرى منطقة القصيم وتدعى المحلاني: « مازلت وزارة التعليم تتجاهل مطالبنا بتوفير باصات حكومية لائقة بأسعار رمزية موحدة، تنقلنا إلى نقاط قريبة من القرى التي تم تعيننا بها، فإلى متى نكون غنيمة دسمة لشركات النقل وجشع السائقين الذين يستغلون بعد المسافة، وشح البدائل، ليستنزفوا ربع راتبنا الذي يقدر بتسعة آلاف ريال من دون حسيب أو رقيب». وتضيف جواهر المعلمة في قرية محلبان التابعة للقويعية: «اضطررت الى أن أقتطع جزءاً كبيراً من راتبي الشهري، للتعاقد مع سائقين، أحدهم يأخذني من بيتي ويوصلني إلى أقرب نقطة من تحرك الباص الآخر الذي يقلّني برفقة زميلاتي المعلمات إلى القرية المنشودة، ما يعني ضياع دخلي على وسيلة نقل من المفترض أن توفرها الجهات المسؤولة لتحمينا من طمع الشركات وتهالك حافلاتهم». وفي رده على هذه الانتقادات وارتفاع الأسعار، يقول عبد الكريم أحد المسؤولين في إحدى أشهر شركات نقل المعلمات: «أسعارنا ليس مرتفعة إذا ما قارناها بطول المسافات، وما تستنزفها من كميات هائلة من البنزين، بالإضافة إلى وعورة الطرقات، وتنوع الأخطار التي تصادف سائقينا من سيول موسمية، وجمال سائبة، وارتفاع في درجة حرارة محرك السيارة بسبب الأجواء الصحراوية الحارة، والإنهاك الجسدي والذهني من القيادة لساعات طويلة في طرق غير منارة». وحول كفاءة السائقين ومدى استعدادهم للتعامل مع تلك الظروف المناخية الطارئة، يرد: « لدينا عدد من السائقين على أهبة الاستعداد لمساندة أي مركبة تتعرض لحادث مروري، أو أي شكل من أشكال الأخطار على الطرقات، وخبرة قيادة الحافلة هي عملية تراكمية يحترفها السائق عبر السنين، وتصبح جزءاً من عمله اليومي». من جانبها أكدت وزارة التعليم «أنها تنوي توفير نقل آمن للمعلمات عن طريق شركة تطوير لخدمات النقل التعليمي بتوفير وسائل نقل تتوافر فيها جميع عناصر الأمن والسلامة لنقل المعلمات في المناطق النائية، وسوف تشمل المرحلة الأولى من المشروع توفير النقل (25.000) معلمة ابتداءً من العام الدراسي القادم 1436 - 1437ه على أن تتوسع فيما بعد لتشمل معلمات المناطق الأخرى « جيل جديد متضرر من أزمة النقل عبير معلمة تعمل منذ ثمانية أعوام في قرية نائية، وتروي كيف كانت تقطع 400 كلم يومياً: «كنت أجلس على أرضية الباص التي اقتعلت منها المقاعد، وكنت حاملاً عندها بابني الثاني، وكانت تستغرق مني رحلة الوصول إلى المدينة ساعتين ذهاباً ومثلهما إيابا، وكنت أضطر بسبب شكل الباص وتصميمه الداخلي، إلى الجلوس بوضعية غير مريحة لي أو لجنيني المنتظر، وبعد ولادتي بثلاثة أشهر شعرت بأن الجنين غير قادر على تحريك رقبته والالتفات للجهة اليمنى، فاستشرت طبيب أعصاب حول الموضوع، فاستفسر عن حالتي النفسية، ونظامي الغذائي، وأسلوب حياتي، وطبيعة عملي، محاولاً إيجاد سبب منطقي لذلك العارض، حتى توصل إلى نتيجة أن وضعية جلوسي هي الاحتمال الأرجح لتصلب عضلات رقبة ابني وعجزه عن الالتفات، فعالجته عدة سنوات بأدوية وجلسات علاج طبيعي، دون أن أحصل على نتيجة مرضية، حتى شاء القدر أن تدلني إحدى قريباتي إلى مدلك هندي يقطن في منزل صغير في إحدى أحياء الرياض البعيدة، فقصدته حتى كتب الله الشفاء التام لابني على يده». ولا تقتصر الأضرار الجسدية على أبناء المعلمات، فكثير منهن يتحدثن عن التأثير السلبي المتفاقم لغيابهن وبعدهن عن منازلهن، منهم من أعاد سنة دراسية كاملة بسبب تراجع مستواه الدراسي، وافتقاره للمتابعة، ومنهم من بات عاجزاً عن تقبل والدته كردة فعل معاكسة لطول ساعات غيابها عن المنزل.