انتشر خلال عقد من الزمان زخمٌ معرفي هائل على شاشات الأجهزة الإلكترونية الذكية بشكل يجعل العقل يركض لاهثاً لتلقي أكبر جرعات ممكنة. ليس الغرض من وراء ذلك هو الاستيعاب العقلي لكل ما يصلنا، ولكن لإضافة رصيد معنوي، بأن هناك إمكانية لإظهار الذات في ساحة لا تتطلب الكثير من الجهد.. فقط زر يضغط ليعلن المرسل عن نفسه. فقد حقق مبتكرو وصنّاع الأجهزة الإلكترونية المتخصصة إمكانية ربط أي جهاز بالشبكة العنكبوتية سواء سلكياً أو لا سلكياً.. وأصبحت الهواتف المحمولة أجهزة ذكية تقوم بعرض وتنزيل وتحميل أي مادة من وإلى الشبكة، وبذلك يتم تداول واسع لكميات هائلة من المعلومات بسهولة وسرعة فائقة. كما تحول التلفاز في هذه الحقبة إلى جهاز يعرض المئات من القنوات الفضائية بواسطة لواقط متخصصة وأجهزة داعمة لهذه الوظيفة. شاع استخدام الهواتف الذكية والحواسيب والأجهزة اللوحية عبر المنطقة بشكل محموم.. ويسرت الشركات والجهات العاملة في هذا الحقل توفير خدمات الشبكة العنكبوتية وأسلوب الدفع بما يتناسب مع خلفية وواقع المستخدمين بكل فئاتهم. على مدى ثلاثة عقود تعرفت منطقتنا العربية على خدمات ومنتجات تقنية لا تعتمد على قطع ملموسة صلبة ولكنها محسوسة عبر استخدامات يستفيد منها العميل، كباقات الخدمات التي توفرها شركات الاتصالات.. وأدى ذلك إلى إنتشار العديد من قنوات التواصل الاجتماعي، مما أحدث طفرة حقيقية في المنطقة العربية.. طفرة شملت كافة فئات المجتمع ومختلف الأعمار.. أصبح الأمر بالنسبة للفرد يُشكِّل متنفساً يتجاوز من خلاله حدود الزمان والمكان بدون عناء تعقيدات التنقل من مكان إلى آخر.. وتحولت أساليب الحياة والتعامل والتواصل على المستوى اليومي المعيش للأفراد، كما تبدلت طبيعة البنية اللغوية والمفردات المستخدمة في التواصل على نطاق واسع.. وغني عن القول إن تلك التحولات طالت جوهر البنية الفكرية والثقافية للمجتمعات العربية.. ويحمل الواقع العربي منذ أكثر من عقد من الزمان الكثير من الشواهد على ذلك. أصبح من سمات «العصرية» بالمنطقة العربية استخدام الشبكة العنكبوتية وشبكات التواصل الاجتماعي لكل الفئات العمرية وباختلاف الخلفيات الثقافية، بشكل يومي ومن خلال تداول مفرط للصورة والصوت والكلمة. نجد أن التدفق المعرفي فاق حد التصور الذي كنا عليه حين كانت أجهزة المحمول في حقبة التسعينيات ترينا حروفاً وأرقاماً وأشكالاً مرسومة بسيطة تعبر عما يريد المستخدم إيصاله، وكذلك التقاط وإنزال الصور باللونين الأبيض والأسود. تعدى الأمر وسائل التواصل.. وصلنا إلى إمكانية تجسيد المتخيل في هيئة صورة وصوت، وذلك من خلال برامج متخصصة تجعل الفرد يعيش في عالم افتراضي ويختار له هيئة وحياة متكاملة.. يعيش وسط أغراب وجدوا منفذاً لحياة افتراضية تجوب بهم العالم ليلتقوا بأشخاص ويقيمون علاقات وهم في أماكنهم وأمام شاشة إلكترونية فقط. ومع التقدم التكنولوجي المتسارع برزت ظاهرة أخرى جديرة بالملاحظة وهي ظاهرة الميل للإيجاز والتكثيف في الشكل والمضمون للمادة المتداولة.. بدأنا نختصر أحاديث قد تصل إلى صفحات عدة في أسطر قليلة، أو حتى صورة أو رمز واحد فقط.. فمثلاً يكفي أن نرى رسماً أو رمزاً لنعرف حالة الطقس في مكان ما، دون الحاجة إلى الشرح والتفصيل. قبل عشرين عاماً، كان يلزمنا كتابة صفحات مطولة أو وضع صور وشروحات تفصيلية لإيصال خبر ما أو معلومة، الآن نفس المعلومة لا تتطلب منا سوى بضع كلمات، أو مجرد صورة أو رمز بسيط. في الفترة ما بين الستينيات وحتى التسعينيات كانت الشاشة الفضية تخصص ساعات للصغار في منطقتنا العربية ليشاهدوا فيها برامج خاصة بهم.. كما ظهرت ألعاب الفيديو الإلكترونية البسيطة في حقبة الثمانينيات.. بعدها بعقد من الزمن صنعت ووزعت تجارياً أجهزة بحجم كف اليد للألعاب الإلكترونية المحمولة.. توافق بعدها أن أصبحت هناك قنوات تلفاز متخصصة تبث برامج موجهة لهم قد تمتد لساعات خلال اليوم، ومن بعد ذلك أصبحت تبث بشكل مستمر وعلى مدار اليوم وطوال أيام الأسبوع.. تدرجت الألعاب الإلكترونية لتصل إلى ما هي عليه الآن.. ألعاب متنوعة تتواجد على أجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية والتلفاز والهاتف المحمول.. وجميع تلك الأجهزة موصولة بالشبكة العنكبوتية. ساعات طويلة يقضيها الكبار والصغار يومياً أمام الشاشات المختلفة، بغض النظر عن الجهاز أو مسميات البرمجيات التي تعمل عليه.. ساعات من التواصل الافتراضي والعزلة الواقعية عما حولهم.. أدى ذلك إلى تقليل ساعات التواصل المباشرة بين البشر في مجتمعاتهم، سواء داخل الأسرة أو في محيط العمل. أصبح الصمت في الحياة الاجتماعية والعملية عاملاً مشتركاً بين أفراد الجماعة الواحدة، سواء كانوا أفراد أسرة أو زملاء دراسة أو عمل، وبغض النظر عن العمر والجنس.. هناك تركيز مستمر على شاشات تسحب الزمن والجهد نحوها بشكل يشبه الإدمان.. يؤدي ذلك لاختصار لغة التواصل إلى الحد الأدنى، وأحياناً يستخدم الصمت في حد ذاته كلغة للتواصل. ومع الصمت الاجتماعي الواقعي والتواصل الافتراضي ظهرت الرسائل المقتضبة.. فكلما كانت الرسالة موجزة وجدت فرصة أكبر لقراءتها.. كتلك التي تظهر على شريط أسفل شاشة التلفاز، أو مقال أو دراسة مقسمة إلى فقرات مختصرة تصل أجهزة الحاسوب أو المحمول أمام أعيننا.. ولا بأس من مقطع مسجل يحوي الصورة والصوت معاً، ولكن يحسب ذلك أيضاً من ناحية المدة ووضوح الفكرة والعرض المشوق. لقد فرض علينا بطريقة أو بأخرى مواكبة تلك التطورات لتحقيق العالمية.. وأصبحت استخداماتنا للغة والصورة لأغراض التواصل تميل إلى الاختصار والتكثيف وكذلك الإثارة والتشويق.. فلننظر لما تقدمه السينما والتلفاز والمذياع من إعلانات تبث دون انقطاع للمتلقين.. بالإضافة للوحات الإعلانية في الطرقات وعلى المباني الشاهقة. سنجد نفس الخصائص الأسلوبية التي سبقت الإشارة إليها من اختصار للمضمون اللغوي وتكثيف للمضمون البصري واعتماد درجات عالية من الإثارة والتشويق. متى آخر مرة جلست أيها القارئ لإرسال رسالة بريدية ورقية لشخص تربطك به صلة صداقة أو قرابة أو زمالة؟ وماذا يمكن أن تكون قد كتبت فيها؟ وكيف عنونت المظروف من الخارج قبل أن تغلقه؟ متى آخر زيارة للقرطاسية لشراء دفتر رسائل وقلم يبين جمال كتابتك للحروف؟.. وهل عاصرت عهد الحبر السائل والأوراق المعطرة والملونة والتي تحوي رسومات وصوراً لطيفة؟ لا ننتظر إجابات فليس لدينا الوقت لنسمع قصصاً مرادفة وتفصيلية.. لِمَ نعم ولِمَ لا؟! فهل نقف بعد ذلك عند أساليب الكتابة النثرية والشعرية المعاصرة لنوظف أساليب من الصعوبة أن تواكب عصرية العقول التي ستقرؤها. لا تعني مفردة «العصرية» هنا وسائل الترويج لاستخدام ما هو تقني وحديث، بل لما فرض على أرض الواقع بعصريته الأداتية والاستخداماتية.. فمعظم الناس يميلون الآن، وسيميلون بشكل أكبر كلما تقدم الوقت، للإيجاز والاختزال والتكثيف في مضمون الرسالة وشكلها. ولعل ما يحدث في مجال مهرجانات السينما العالمية من إدراج مسابقات خاصة بالأفلام القصيرة والتي تعقد لاختيار أفضلها دقة وإبداعاً لدليل على عمق هذه التوجه وقوته.. ليس هذا فحسب، فقد انتشرت مسابقات وجوائز لأفلام تم تصويرها وتركيبها بعدسة كاميرا الهاتف المحمول تتناول قضايا اجتماعية وإنسانية مهمة. القصيدة والرواية والمقال، وكل ما يمكن أن يكتب بالحرف بصيغة الإبداع، عليه مواكبة مجريات الحياة العصرية والمستقبلية التي تجرنا نحوها، ليس للوقوف عند تجاربنا فقط كبشر، بل للاستفادة من تطور الذكاء الاصطناعي الذي يحاكي الذكاء الإنساني في أقوى وأرقى صوره إن جاز التعبير.. إن تخلفنا عن مواكبة هذه التحولات المتسارعة فكل ما يكتب خارج واقع ثقافة الإنسان وعقليته المعاصرة واللاهثة للمستقبل التقني سيكون مجرد كلام لا يقرأ إلا من قبل الكاتب وربما القلة من المتابعين الذين فضّلوا العيش خارج الزمن.