بالأمس كان الجدار يستفزك بصمته وثباته أمام ركلاتك المجنونة المثابرة.. فأنت لم تصدق أنه جدار.. أو لعلك لم تعد تفهم الفرق بينه وبين ما حولك من كائنات، فصدودهم لك لا يختلف عن اتكاء هذا الجدار إلى فراغ، وامتناعه عن ترديد صداك.. هاه.. قهقه ما شئت؛ لأن الشمس تخترقك كأنك من زجاج.. ولا ظل لك. الشقراء المارة على عجل تنظر إليك بازدراء.. سحنتك مريبة، وشرقية بشاربين صداميين؟ رجل أحمر الوجه يرمقك باشمئزاز.. يذكرك به، وسوطه، والكرسي الكهربائي، والمروحة التي تعلق فيها بحبل مشدود لساقيك.. لا تعني تفاصيلها بالتأكيد من هو على شفير الموت.. بمعنى آخر، كل ما جعلك تقطع القفار مشياً على الأقدام حتى موضعك هذا من حديقة خضراء منسقة بطريقة لم تعتدها عيناك. صمتت طويلاً قبل رحيلها، وتحولت إلى أحجية.. غضبك وصراخك لم يجدِ نفعا.. استخدامك للغتك الأم عند احتدام الخلاف هو الأسوأ.. ربما هو ما دفعها لحمل حقيبتها بلا عودة..؟ الشمس.. رفيقة ماضيك، وساعتك المفضلة لمعرفة الوقت، وبهجة العودة بأكياس طعام.. صارت بخيلة العطاء هنا.. تتصبب عرقاً، وتستجيب لأوامر «الخَلْفة»، لا يعنيك الفرق بين الإرغام والحرية، بين الرضا والرفض.. ففي نهاية النهار ستُشبع بطوناً جائعة، ويتحلق حولك الجميع، ينتظرون ما في جيبك من حلوى.. أهي الشمس ذاتها؟.. ألم تتغير؟؟ تخترقك الآن بسيوف الضياء.. وعلى العشب الندي الشديد الخضرة دون ذرة غبار لا يرتسم ظلك..؟ أطفال يهرولون في الحديقة العامة، يعرفون البهجة فحسب.. بحجمك الصغير هرولت خلف اللقمة.. في سوق مزدحم.. خياران فقط على الأغلب تبينهما والدك يومها.. الموت دون علم عراقي يلف نعشه أو الموت ممزقاً.. مجهول الهوية في حرب ناقة البسوس.. لم يشأ الموت لأجل ناقتها.. ولا أظنه شعر بسعادة الخلاص عندما ربطوه على جذع نخلة يتلون عليه بيان إعدامه، مباركاً بزغاريد الماجدات من حوله، ومتوجاً في النهاية برصاصة رحمة يطلقها رفيق شديد الإخلاص لقائده الفذ.. - هل كان لك ظل يومها؟ لم تجد الوقت لتفكر.. فصاحب المطعم المجاور يبحث باستمرار عن أية خلوة ليحشر قضيبه في مؤخرتك كما فعل الرفيق معاذ لاحقاً.. ترتعد وتتحاشى اللقاء به.. وكثيراً ما نسيت أمر بضاعتك الهزيلة تاركاً إياها للسراق.. الشمس تخونك اليوم.. «الشمس أجمل في بلادي من سواها.. والظلام حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق». ما أنت بكسيح الساقين، بل كسيح الروح.. والخليج ليس تمامك.. ليس هنالك من فرصة لتأمل الخليج.. هو أيضاً أصبح يستأصلك جغرافياً.. والناس على سواحله لا يرون سيّابك، ولا يريدون تذكره.. جسدك الغريب المثير لاشمئزاز المارة.. تخترقه النظرات المستهجنة.. (غريبة من بعد عينك يا يمه.. محتارة بزماني..).. يتهدج صوتك، تعجز عن نطقها؟؟.. كلمة (يُمّه)؟؟.. المكان لا يليق بالمرأة التي تدثرت بالسواد منذ صوبت البنادق نحو صدر أبيك وهو موثق إلى نخلة.. مذ منعتْ من البكاء علناً عليه.. مذ صارت تعمل في خدمة البيوت المترفة للضباط الكبار.. مذ قتلها البكاء على شقيقيك الأكبر سناً. - انشقت الأرض وابتلعتهما؟؟.. أغلقت عينيها أبداً.. وهي تسأل الكون اللامتناهي عن بقعة قد يتواجدان فيها.. العيون الزرق الخضر الملونة تطعنك؟.. لا تدري؟؟.. هو ذاك، مثلما لا تفهم أهمية الزمن بالنسبة لهم.. وهم يتسابقون معه.. أنت الغريب من تعتاش على فتاتهم.. مخلوق بسحنة مختلفة يتحاشاها الجميع.. غيبته السجون، واللقمة البائسة، والبحث عن ملجأ؛ إذ لا يرون لك جذراً ولا جذع نخلة ولا ثمراً.. صورتها محطمة الزجاج.. هذا لا يعني أبداً أن البلاد ليست بلادها.. لن يدمي قلبها حطام زجاج في غرفة الغريب.. الذهول يحيط بك وأنت إلى جوارها.. لديها قدرة هائلة على طرح أسئلة يتعذر أن تجيب عنها.. كيف لك أن تشتل النخيل على السرير.. وتبسط وادي الرافدين؟ شقراء لا تشبه أمك ولا أختك.. دمية جميلة.. تمنيت لو حظيت بها وأنت صبي.. الدموع لا تترقرق في عينيها.. وليس بينها وبين حزنك السومري عشرة.. الجثث جعلت من الكلاب ذئاباً.. صوته يتدحرج ككل حصى الذكريات البعيدة المغبرة.. فكرة يائسة ألقت بك في معسكر الصحراء حيث تمنيت لو أنك جزء من الرمال المترامية الأطراف، لا شهيق يعلو ولا زفير يهبط.. _أنت عراقي؟؟.. سؤال أشبه بتهمة.. تركل الجدار.. تركل مؤخرة صاحب المطعم.. تركل الرفيق بملابسه الزيتونية وهو يطلق رصاصة الرحمة على رأس أبيك. تركل البضاعة التي لا تعرف بيعها وأنت مجرد طفل باك لأجل لعبة في العربة المجاورة.. تقلب سر الأرض التي ابتلعت شقيقيك.. تركل الحدود بينك وبين دول العرب.. تركل مطاراتهم التي لا تستقبلك.. تركل الماضي كله دون حاضر بين يديك، دون مستقبل لا تغترب فيه.. هل تركل النخيل؟ إنه ينمو داخلك.. كما ينمو حزنك على وجه أمك وهي تحتضر، وتستحضر أرواح المغيبين، وتحصيهم وتنادي عليهم واحداً إثر الآخر.. مجيد.. سالم.. حسن.. هادي.. أنا هنا يمه... إنها لا تسمع كما هو دجلة حين تسأله عنه.. تبحث عن جثته الطافية وقد تورمت وضاعت ملامح وجهها.. ومن جديد تتجه نحو مشرحة الطب العدلي.. رأس كلب خيط إلى جثة شوهها التعذيب.. تتقيأ.. تتقيأ.. المرأة تبكي وهي ترش الماء على وجهك.. تناديك من خلال غيبوبتك: _هل وجدته؟ هل تعرفت عليه؟ الشقيق الأخير.. من يشبه أباك تماماً.. كيف ستقول لها إنك لم تعثر على الجثة؟ زوجته مدثرة بالسواد أيضاً، ولا عزاء ينصب.. دون جثة.. ولا حتى رأس.. تحتضن.. الزخارف، والمقابض الفضية، والنقوش الرائعة، تلح بسؤالك عند الضريح... حزنك أصبح لغزاً محيراً.. تربتْ برفق بيدها المشذبة الأظافر.. - أنا آسفة!! الجدار الأصم من جديد.. هذه البلاد تتبرأ من فعل سفاحيها على أراضينا.. تلتفت إليك؟ ليس ذنبي كيف تعيشون هناك.. تهز كتفيها.. تحمل الحقيبة وتمضي.. شقراء أخرى تبعد ابنها عنك محذرة إياه من التحدث إلى الغرباء.. تجهش بالبكاء.. الشمس تخترقك حتى العظم، ولا ظل لك على اخضرار العشب النظيف جداً دون ذرة غبار.