الأحداث الإرهابية الدامية، التي شهدناها وشهدتها البلاد خلال هذا الشهر، تعني بوضوح أن الإرهاب والإرهابيين غيروا تكتيكاتهم، لإثارة الفتن والاضطرابات والقلاقل في البلد، بعد أن تبين لهم أن محاولاتهم طوال قرابة عقدين من الزمن لقلب الأوضاع الأمنية في البلاد باءت بالفشل الذريع، ولم تحقق لهم ما كانوا يعملون من أجله.. في الماضي كان القاعديون يستهدفون إما غير المسلمين من الوافدين إلى البلاد، كهدف أول، أو كبار المسؤولين من مدنيين أو عسكريين كهدف ثان، واكتشفوا أن الوصول إلى هذه الأهداف صعب وغير متيسر ودونهم ودونه خرط القتاد، ولن يتحقق لهم ما كانوا يصبون إليه.. وكما هو معروف فأقلية من مواطني المملكة من الطائفة الشيعية، وبذلك فتكفير المواطنين الشيعة من قبل المواطنين السنة، وإبراز ذلك على السطح، والعمل على إيقاظ الفتنة االطائفية، وإشعال جذوة التطاحن المذهبي بين هؤلاء وأولئك، هو أفضل الطرق لقلب البلاد عاليها على سافلها، لذلك عمد الإرهابيون الدواعش، إلى استهداف الشيعة، بقتل أكبر عدد منهم، وفي الأماكن التي لا يشاركهم فيها أحد من السنة، وهي أماكن العبادة في (المساجد) حصراً، لاستفزازهم ليردوا بالمثل، وإثارة الشرارة التي ستشعل البلاد، ومن خلال الفوضى والدماء، يصل المتأسلمون إلى السلطة، غاية غاياتهم. خطورة هذا التكتيك الإرهابي الجديد، أنه أسلوب يستعصي على الحكومة ورجال الأمن؛ مهما كانوا يقظين ويحتاطون ومتنبهين؛ فالحكومة والجهات الأمنية، لا تستطيع في نهاية المطاف أن تَحول بين الإرهابي وأهدافه، كما كان الأمر في الماضي، إلا أن تضع مع كل فرد من المواطنين الشيعة رجل أمن، وهذا مستحيل؛ الأمر الذي يجعلنا نعود إلى ما كنا نطالب به قبل قرابة الخمسة عشر عاما، حين شارك 15 صحويا سعوديا في أحداث 11 سبتمبر، وقلنا حينها: لا حل إلا مواجهة خطاب الكراهية والإقصاء والتكفير، وتتبُّع واجتثاث محاضن التكفير وصحونة المجتمع، مهما كانت التبعات؛ غير أن الحكومة فضلت الحل الأمني، وتسامحت إلى حد ما مع ثقافة التطرف، وبالذات التكفير. أي عالجت بحزم وقوة ما هو ظاهر من مخرجات ثقافة الإرهاب على الأرض، وتركت الجذور. نحن اليوم نقف على مفترق طرق بكل ما تعنيه العبارة من معنى، فإما الإصرار على الحل الأمني (فقط) أو نجعل مع الحل الأمني، مساندة موضوعية وعملية (ثقافية)، ونواجه مفرزات الصحوة، ومخرجاتها الثقافية، بحزم مهما كانت التضحيات. أعرف أن كلامي هذا (سيستفز) الصحويين، وسوف يتهمونني بشتى التهم، غير أن ما نراه أمامنا ماثلا للعيان في سوريا والعراق وليبيا، من أهوال ودماء لا تتوقف إلا لتسيل ثانية، يجعل العاقل يترك عنه المكابرة والمغالطة ويرضخ لما يجب أن يكون وإن كان علقما؛ فالقضية - أيها السادة - تتعلق بنكون أو لا نكون. كل ما أطالب به هنا أن نعيد النظر في خطاب التكفير والكراهية والبغضاء، والتحريض على المذاهب الأخرى، الذي يُزمجر به بعض خطبائنا كل يوم جمعة، على منابر الجوامع، ويُمارسه بعضُ معلمينا ووعاظنا، بل وبعض أكاديميينا، في دروسهم في الجامعات وكذلك في ندواتهم، وفي مواقع التواصل الاجتماعية. ولعل من التصرفات المتناقضة والمثيرة للضحك، أن نشتم الشيعة ونكفرهم في أول النهار، وفي نهاية اليوم، نُندد ونشجب ونستنكر، ما تقتضيه الكراهية والبغضاء من ردود أفعال إنسانية متطرفة، وكأن ما نمارسه من تناقضات مُضحكة مشاهد من (مسرح اللا معقول)!! سادتي: يقول جل وعلا: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (11) سورة الرعد، فتغيروا، ودعوا الخلق للخالق، وليتّسع الوطن وصدور مواطنيه لجميع أفراده، بمختلف مذاهبهم وعقائدهم؛ واقرؤوا تاريخ أوروبا في القرون السابقة للقرن العشرين الماضي، وكيف كان الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، وكم كلفهم التطاحن المذهبي من الأرواح، ثم إلى ماذا توصلوا إليه في النهاية؛ إنها عبارة بسيطة وبليغة، وفي ممارستها فعليا الترياق لحل هذه المعضلة: (تعايشوا واحموا وطنكم وإن اختلفت مذاهبكم وعقائدكم) هذا ما اتفق عليه الأوروبيون بعد أنهر من دماء خلقتها النعرات الطائفية؛ فاتعظوا يا أولي الألباب. إلى اللقاء.