«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وإنَّا على فراقك يا شيخ عبدالعزيز بن داود لمحزونون

كان لوفاة الشيخ (عبدالعزيز بن محمد الداود) -رحمه الله- الأثر الكبير على النفس وذلك لما له من محبه صادقة في القلب عندي، هذه المحبة لم تكن وليدة مرحلة محددة من العمر بل العمر كله، ولذا سأتحدث عن مواقفي مع الشيخ التي أذكرها عنه وليس عن سيرته التي سبقني الآخرين في الحديث عنها.
أذكر الشيخ في مراحل طفولتي وشبابي حتى توفاه الله، ففي مرحلة الطفولة كان -رحمه الله- يأتي يصلي التراويح في رمضان نيابة عن الوالد -رحمه الله- والذي كان إماماً لمسجد العطايف بسكننا الأول، ولا زلت أذكر صوته (الشجي العذب) في تلك الفترة، ودعاؤه القنوت المختصر المؤثر، وأحياناً بعد الصلاة يكرمنا الشيخ بدخول المنزل وتناول الشاي والقهوة. وكنت أحرص جداً إذا علمت أن الشيخ موجود لتقديم الشاي والقهوة له، لما أعرفه عن الشيخ من محبته للأطفال وتشجيعهم فحينما أسلم عليه يطلب مني قراءة ما تيسر من القرآن ثم يلاطفني ببعض الأسئلة الذكية الطريفة، والتي تزيدني ثقة بالنفس وانبساطاً قلّ ما أجد ذلك لدى الزوار الآخرين للوالد -رحمه الله- وما أكثرهم.
علاقتنا مع الشيخ -رحمه الله- ممتدة منذ الطفولة فبالإضافة لعلاقته الدائمة مع الوالد (-رحمه الله-) فإننا نلتقي به في المناسبات والزيارات العامة ودوريات الجماعة وغيرها، حتى أكرمنا الله جلّ وعلى أن نتجاور في الشرفية بالرياض فلا نفتأ نقابل الشيخ في المسجد ونسلم عليه بشكل شبه يومي.
حصل لي مع الشيخ مواقف عدة لازالت عالقة في الذهن خصوصاً حينما أصلي نيابة عن الوالد -رحمه الله- التراويح في المسجد بحي الشرفية وهذا الفضل (الصلاة نيابة عن الوالد) قد حظي به ولله الحمد أخواني (خالد، ناصر، عبدالرحمن، عبدالوهاب، وابني عمر) وكل واحد منهم له ذكريات لا تنسى مع الشيخ أو جماعة المسجد.
وبالنسبة لي أذكر أن الشيخ يطلب مني أحياناً بعد الإنتهاء من صلاة التراويح أن أرجع إلى المصحف لإعادة قراءة آية قرأتها في الصلاة، وأعلم لحظتها أنه يريد أن يصحح خطأ قرأته فيها ولكن (بأسلوب جمّ في تصحيح الأخطاء وتعديلها).
في العشر الأواخر من رمضان، وبعد الانتهاء من صلاة التراويح أو القيام ولا يبقى في المسجد إلا الشيخ وأخوه الشيخ سعد والوالد -رحمهم الله- وأحياناً بعض جماعة المسجد نقرأ في تفسير ابن كثير بعض الآيات التي قرأتها، فيعلق عليها الشيخ أيضاً بتأملات عظيمة عجيبة تلامس الواقع لم أسمعها إلا منه، وددت أني كتبتها تلك الفترة لما لها من فوائد عظيمة في تأملات آيات الله ولا غرابة في ذلك من رجل معلق قلبه بكتاب الله يختم القرآن في يومين في شهر رمضان.
جرت العادة أنني أقرأ على جماعة المسجد قبل التسليمة الأخيرة من القيام من كتاب المختار في مجالس شهر رمضان، وهذا الكتاب عبارة عن مجموعة من الفصول في الترغيب والترهيب في المواعظ والرقائق والأحكام باستدلالات عديدة من الآيات والأحاديث الصحيحة والحسنة، ومن الفصول التي قرأتها ولا أنساها كان عن (وصف النار) فتأثر الشيخ وبكى كثيراً مما ورد في وصف النار، وبعد انتهائنا من الصلاة قال يا إبراهيم اقرأ علينا في وصف الجنة، فقلت يا شيخ سنقرؤه في اليوم الثاني، فقال لن تطيق قلوبنا الحزن والانتظار إلى اليوم الثاني، اقرأ ولو شيئاً يسيراً فقد آلمنا وصف أهل النار ونريد أن تستشرف قلوبنا بوصف أهل الجنة، ثم بدأت أقرأ عن وصف الجنة وأهلها، فأنظر التحول العجيب للشيخ من الحزن والكآبة إلى البسمة والسعادة، وأنظر بين فينة وأخرى إلى وجه الشيخ فأراه مشرقاً ويزداد نوراً ويلتفت يميناً ويساراً محاولاً الإبصار وهو يهلل ويكبر، وكأنني أتخيله ينظر إلى منازله في الجنة، فأجد منه اليقين الصادق لما بعد هذه الدنيا، ويعلق الشيخ في الأخير قائلاً ما بعد هذه الدنيا إلا الجنة أو النار.
بعد انتهائنا من القراءة أخذت الشيخ إلى منزله وفي الطريق قلت يا شيخ لا تنسنا من دعائك، وأدعو الله أن يجمعنا بك ووالدينا في الفردوس الأعلى من الجنة فدعا الشيخ -رحمه الله- وأكثر من الدعاء، ففرحت كثيراً بدعاء الشيخ، ولو كنت من أهل البدع والخرافات لقلت أني حصلت على (صك غفراني) من الشيخ -رحمه الله-.
نسمع عن (أزيز المرجل) فأجده في صوت الشيخ أثناء السجود وبعض جماعة المسجد في ليالي رمضان. ومع ذلك لا يخلوا مجلس الشيخ أحياناً بعد الصلاة من إيراد بعض النوادر والطرف والحكم وفي العادة يبدؤها أخوه الشيخ سعد -رحمه الله- الذي جمع بين العلم والدعابة وأجد لتندرهم وطرفهم حلاوة وأنساً وفائدة.
تأملات الشيخ في قراءة تفسير ابن كثير عديدة وعظيمة، ومن باب التنويع طلبت من الشيخ أن يقرأ في تفاسير أخرى فاستحسن ذلك، ثم قرأت على الشيخ من التفاسير المتأخرة والتي يركز مؤلفها على الأسلوب السردي الأدبي من كلامه، فأجد الشيخ ساكتاً لا يعلق ولم أجد منه تفاعلاً في ذلك، ثم أنتقل بعد ذلك إلى تفسير ابن كثير لتفسير نفس الآية التي وردت في التفسير السابق فألاحظ الشيخ يتفاعل ويعلق فأسأله عن سر تفاعله في تفسير ابن كثير فيقول عنه إنه تفسير القرآن بالقرآن، ويربط الآيات ببعضها مع الدلالة في ذلك، أما التفسير الآخر فيركز مؤلفه على أسلوبه وليس أثرها كالتفسير الذي يربط الآيات والأحاديث ببعضها.
لم أكن ملازماً للشيخ في دروسه، وإن حضرت بعدها، لكني قرأت على الشيخ أكثر من مرة في تفسير القرآن الكريم وتدبر معانيه، كما قرأت عليه الفقه وخصوصاً أحد شروح الزاد، حينما كنت منتسباً في الجامعة وخصوصاً أبواب المعاملات وفصول البيع التي يصعب فهمها بالنسبة لي، وأجد شرح الشيخ وتوضيحه سهلاً ميسراً وبطريقة عجيبة وكم غبطت طلاب الشيخ في الجامعة وتلامذته ممن درسوا على يديه، وما ذكروه من علمه وسماحته وتواضعه وحسن سمته..
كم مرة يدعوني الشيخ لكرم ضيافته فاعتذر منه، حتى أنه قال لي مرة -رحمه الله-، إلى متى وأنت تعتذر يا إبراهيم عن استجابة الدعوة فحقك قائم إن لم يكن بهذه الدنيا ففي الآخرة فسعدت لهذه العبارة وكلما دعاني بعدها أقول له لعلنا نؤجلها إلى ما بعد هذه الدنيا فيتبسم -رحمه الله-، أسأل الله أن يجمعنا به ووالدينا في الجنة وأرجو أن لا يكون ذلك من تزكية النفس كما قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (32) سورة النجم.
في رمضان الشيخ -رحمه الله- أعتاد أن يذهب للعمرة ويمكث هناك عدة أيام وأذكر أحد المرات حينما كنت أصلي بالناس أن الشيخ بعد مجيئه من العمرة وبعد صلاة التراويح قال لي كان الأولى يا إبراهيم أن تبدأ بقراءة القرآن بالثمن الفلاني، (الثمن: ربع الحزب) لكوني غادرتكم وأنتم قرأتم الثمن الفلاني فقلت كلامك صحيح يا شيخ لكن أحد الأثمان كان قصيراً فصلّينا (الثمنين) في ركعة واحدة... فالقرآن في قلبه حاضراً دوماً حتى مع جماعة مسجده.
أذكر الشيخ في موضعين وزمنين مختلفين في رمضان مرحلة سابقة وهو في قّوته ونشاطه وحيويته، فأذكر أني قلت للشيخ في آخر رمضان سنضطر هذه الليلة نطيل القراءة حتى نختم القرآن فيقول يا إبراهيم أطل القراءة ما شئت حتى تتعب أنت، أما أنا فلن أمّل القيام مادمنا مع القرآن.
والمرحلة الثانية بعد أن كبر سنه وضعف جسده، فأنظر إلى صلاة الشيخ وركوعه وسجوده وصبره وجلده ومكابدته في الصلاة وما يتحمله من عناء ومصابرة ومجاهدة، وأقول في نفسي كم يتمنى شيخنا أن يعود إليه شبابه وصحته لا لشيء إلا ليبذلها في طاعة ربه وعبادته {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (69) سورة العنكبوت، فكانت حياته عبادة من طفولته إلى شبابه إلى كهولته {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} (54) سورة الروم.
في آخر يوم من رمضان جرت العادة أن يسافر الشيخ وإخوانه (سعد وحمد رحمهم الله) وأبناؤهم جميعاً إلى حريملاء فيبقوا هناك فترة إجازة عيد الفطر ويصوموا الست هناك فنزورهم أيام الإجازة ونلتقي بهم في مسجد حيهم حيث يمكثون بالمسجد بين العصر إلى المغرب بالمسجد، فنسلم عليهم ونهنئهم بالعيد، ويكون لقاء محبة وسعادة غامرة، وحينما أسلم على الشيخ ببشاشته وابتسامته الغامرة المعهودة وأنظر إلى وجهه المتلألئ نوراً على نور وأهنؤه بالعيد فيعيد لي ذكريات رمضان ويقول كانت ليال وأياماً لا تنسى، فأنظر إلى وجه الشيخ المشرق وأتخيل أني جئت إليه مهنئاً له بالعيد أولاً، ومباركاً له بجائزة التفوق التي حصل عليها من الملائكة يوم العيد الذي هو يوم الجوائز.
ليالي رمضان خصوصاً العشر منها ليالٍ عظيمة تنقّلنا فيها بين صلاة وذكر وتدبر ودعاء، وينطبق الحديث والذكر الذي قضيناه فيها بمصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة قال مجالس الذكر) فكانت هي كذلك.
ليالي رمضان خصوصاً العشر الأواخر منه ليالٍ عظيمة يشعر الإنسان خلالها بالسعادة والأنس وحلاوة الإيمان التي لا يعادلها لَذّة أخرى في الدنيا خصوصاً حينما تعيشها مع القرآن وأهل القرآن ولهذا قال بعض السلف (إن في الدنيا جنة من لم يذقها لم يذق جنة الآخرة).
كثيراً ما يسألني الشيخ باعتبار كون مجال عملي العسكري عن الأحداث ومستجداتها سواءً الداخلية أو الخارجية وهو في الحقيقة متابع ومتفاعل معها أيضاً ويسعدني في نهاية حديثه دعاؤه لأمة الإسلام وللوطن وأهله وولاة أمره بأن يحفظهم الله بحفظه ولذا أقول بأن الله حافظٌ هذا الوطن بدعاء الصالحين أمثال الشيخ -رحمهم الله-.
رأيت الشيخ مرة مغتماً وحزيناً باختطاف طائرة وهو يقول ما ذنب المختطفين وما حال أبنائهم وأهلهم فهو يتأثر بالأحداث ويتفاعل معهم بصدق وألم...؟..
أعتاد الشيخ عبدالعزيز وأخوه سعد والوالد -رحمهم الله- هؤلاء الجيران (المتاحبون في الله) أن يمكثوا بعد صلاة الفجر في المسجد إلى الإشراق يومياً وبعد صلاة الضحى يخرجون جميعاً مشياً لقربهم من المسجد فيوصل الوالد الشيخ عبدالعزيز ثم الشيخ سعد إلى منزليهما ثم يذهب الوالد إلى البيت، ولكن في اليوم الأخير من حياته، وبعد أن صافحهما وودعهما ذهب إلى حريملاء فكانت آخر يدين صافحهما وأراد الله أن تكون خاتمته في الأرض التي ولد فيها وأحبها، أتذكر حينها اللقاء الممتد لهؤلاء المتحابين في الله ولأكثر من (سبعين) عاماً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم: (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) ففعلاً كانت المصافحة هي الفراق الأخير لهما، وكثير مما ورد في هذا الحديث أجده ينطبق على الشيخ.
يقول أحدهم صحبت الشيخ في الحج وبعد وصولنا من منى إلى مزدلفة منهكين متعبين جداً أجد الشيخ نام قليلاً ثم استيقظ ومكث يصلي الليل حتى الفجر، فأقول قد أعطاه الله جلداً وهمّة في الطاعة على كبر سنه قل ما تجده في غيره -رحمه الله-.
حينما انتقل الشيخ من الحي الذي نسكن فيه إلى حي آخر بالرياض وذلك بعد وفاة والدي -رحمه الله- صرت أتردد للسلام على الشيخ بين فترة وأخرى وقد آخذ معي بعض الزملاء والأصحاب للسلام عليه قائلاً لهم أتريدون أن تروا رجلاً من أهل الجنة فيسلموا عليه ويجدون في رؤية الشيخ ارتياحاً، وأُنساً، ونشاطاً في الطاعة بعدها كنت أجدها أيضاً كذلك وقد روي في الأثر (أن من خير الناس من إذا رأيته ذكرك بالله) وبعد أن أسلم على الشيخ يذكر الوالد -رحمه الله- ويترحم عليه، ثم يستشهد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه) أخرجه الترمذي.
أتذكر الشيخ حينما أقرأ قول الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (62) سورة يونس، وأقول في نفسي إذا لم يكن الشيخ من أولياء الله فمن يكون. ينطبق عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) فقد ألفناه خلقاً عظيماً وقت الصبا والكبر.
سألت أقران الشيخ عن مرحلة الشباب والمراهقة للشيخ كيف كانت فالكل يثني عليه باستقامته وصلاحه وهدؤه، ولم تكن له صبوة المراهقة كمن هم في مثل سنه بل حرص على العبادة والقراءة وطلب العلم أكثر من حرصه على رفقة من هم في مثل سنه، وأذكر أني سألت الشيخ عن صباه كيف كان وهل سبق أن ضُرب أو ضرب أحداً أو إن كان هناك مواقف حصلت له في ذلك الوقت فيتبسم الشيخ ويذكر موقفاً له مرة وهو ذاهب إلى المسجد في صباه يقول وكان هناك بعض الأولاد وقد أحدثوا صخباً ولعباً داخل المسجد وهربوا وقد لحق بهم أحد جماعة المسجد يقول فإذا هو يقابلني وأنا متجه للمسجد ظاناً أني منهم فأخذني وضربني ضرباً مبرحاً وأنا أقول لست منهم، لكن لم يسمعني ويزيدني ضرباً، فالشيخ حينما يذكر هذا الموقف يترحم ويدعوا بالمغفرة والرحمة والصفح لمن ضربه دعوات طيبة فأقول هنيئاً لمن ضربه بهذا الدعاء الطيب ولذا لم يكن لدى الشيخ في صباه جاهلية أو أعداء بل عاش طيب النفس محبوباً مسامحاً من أخطأ عليه.
يقول أحد أقاربي أذكر أنني إذا دخلت المسجد على حياة والدكم والمشايخ بما فيهم الشيخ عبدالعزيز فأجد فيه مهابة ونوراً، وبعد ذهابهم إذا دخلت لا أجد ذلك النور فقد تكون الهالة النورانية التي ذكرها الدكتور توفيق القصر في كتابه السعادة.
للشيخ مكانه المعروف في الصف الأول ونادراً جداً ما يتأخر عن الحضور باكراً إلا لظرف ملح فأجد أنه ينطبق عليه ما ورد عن بعض السلف (أنه لم ير ظهر مصلي).
أنظر إلى الروضة والمحراب في المسجد الذي كان يعتاده فأشعر أنها تشاركنا فراقه وتبكي لذلك.
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة..
حتى المنابر ترثي وهي عيدان..
حينما كنت أصلي في رمضان وأتأثر ببعض الآيات أجدني أحياناً أرفع صوتي أو أخفضه تأثراً أو تأثيراً بما أقرأ فأجد الشيخ -رحمه الله- بعد الصلاة يقول يا إبراهيم ليس رفع الصوت وخفضه هو المؤثر بل كلام الله هو المؤثر فالشيخ -رحمه الله- لا ينظر لمن يقرأ بل يتأثر بكلام الله بغض النظر عن القارئ، درجة عالية في التأمل والتدبر لا ترتبط بالقراء.
في يوم وفاة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- وبعد صلاة العصر أصبح كأن المسجد تحول إلى مكان عزاء وقام الجماعة للسلام على بعضهم معزين في وفاة الشيخ بن باز -رحمه الله-، ولفت نظري مجيء الجار محمد الشدّي -رحمه الله- إلى الشيخ عبدالعزيز وهو يصافحه ويعزيه ويبكي ويتلوا قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} (44) سورة الأنبياء، فانتابني السؤال ما علاقة هذه الآية بوفاة الشيخ ابن باز فعلمت بعدها أن من تفسيرها بموت العلماء والفقهاء وأهل الخير منها.
وحين أتأمل من كان في المسجد تلك الفترة ممن أذكر من حفظة كتاب الله وهم الشيخ عبدالعزيز وأخيه سعد والوالد ومحمد الشدّي ومحمد الدليمي وقد انتقلوا جميعهم إلى رحمة الله أجد أن الأرض تتسارع في احتضان مثل أولئك الرجال.
لم أذكر أني سمعت الشيخ تحدث عن أمور الدنيا المادية أو أبدى اهتماماً بها أو سؤال عنها، ولم أسمع منه حديث بيع وشراء، ومناقشة في ذلك فكأنها خلقت لغيره -رحمه الله-، أعطاه الله زهداً في الدنيا ومع ذلك أتته الدنيا وهي راغمة، بل ما أعرفه حرصه على أداء حقوق الآخرين بشكل عجيب فقد حدث وأُخبر أن خادم المسجد فُصل من عمله لأمر مشين ولن يرجع مرة أخرى إلى المسجد فاغتم لذلك ودعا له بالهداية ثم طلب البحث عنه لكونه لم يعطه أجرة تنظيف سيارته. وما سأل سائل قط بالمسجد إلا أعطاه، وما سلم عليه صغير ٌ وكبير ٌ من أي جنسية كانت إلا تهلل بوجهه وكأنه أقرب الناس له.
لا يفتأ بين ذكر وقراءة قرآن وصلاة كما أحب الناس وأحبوه وأنتم شهداء الله في أرضه.
قد صلى عليه جمع من المصلين من العلماء والمشايخ وطلبة العلم وحزنوا حزناً كبيراً على وفاته والكل يقول عنه (هذا بقية السلف).
حينما أّدخل القبر وأردنا أن نحثوا التراب على قبره تسابقت التربة والأيدي بسرعة عجيبة لم تطلها المسحاة وبعد الانتهاء من الدفن مباشرة أمطرت السماء لتشاركنا الدفن وتكون ساعة استجابة بنزول المطر للدعاء له ولتنظف الأمطار الحصيات التي على قبره فأتخيلها كانت اللؤلؤ الأبيض الناصع المنثور على قبره.
رحمك الله يا شيخنا رحمة واسعة ورفع درجتك في عليين مع النبيين والصدقين والشهداء والصالحين ووالدينا وجميع المسلمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.