قد يكون من اليسير الكتابة في موضوع تدركه ولديك القدرة على الإفادة حوله، إلا أنه في مقابل ذلك تجد من الصعب أن تكتب عن شخص قريب عزيز إلى نفسك له منزلة خاصة في القلب قد فارقك وتركك للأبد، لأنك لا تستطيع مهما كنت أن تعبر عن كل ما في خاطرك تجاهه وإن حاولت فقد لا تكفي الساعات والأيام والصفحات لتكتب ما ترضاه نفسك، ولكن تبقى الذكريات والمحاسن عالقة في الأذهان، لا يمكن أن تزول من ذاكرتك، لقد أبت نفسي إلا أن أسطر شيئاً يسيراً مما في خاطري تجاه فقيدنا الغالي العم الشيخ سعد بن محمد بن عبدالرحمن الداود والد كل من (سليمان وعبدالحكيم وبندر وعدد من البنات) الذي وافته المنية مساء يوم الجمعة 3/2/1432ه، بعد معاناته مع المرض لم يمهله طويلاً، كانت تلك المكالمة التي أُخبرت من خلالها بوافته (يرحمه الله) من أشد المكالمات ألماً للنفس لأنها تضمنت خبراً مؤلماً ومحزناً ليس لأنه خبر موت فحسب بل لأن الميت هو ذلك العم الذي لم يفارقنا منذ أن رأينا النور في هذه الدنيا الفانية، فمن الطبيعي أن تأخذني الذاكرة لتلك الأيام الجميلة والمواقف البهيجة التي جمعتني به (يرحمه الله) منذ الصغر فقد كان أباً حانياً راعياً معلماً مربياً كريماً .. فأتذكر اصطحابه لنا لنشتري احتياجات المدرسة أو بعض الأمور الشخصية، وبطبيعة الطفل يحاول أن يلح في طلب بعض الحاجيات التي ربما لا داعي لشرائها ولكنه بعطفه وحنانه يستيجب لتلك المطالب شفقة ورحمة بنا، كان يقضي معنا ما بين المغرب والعشاء في تعليمنا القرآن الكريم ومراجعة ما طلب حفظه وتلاوته ثم يستمع لقراءتنا في كتاب (المطالعة) ولديه ثقافة واسعة فيجيب على أسئلتنا في مواد اللغة العربية والاجتماعيات، كان له فضل بعد الله سبحانه وتعالى فيما تعلمناه ودرسناه، فقد شرفني بأن كان من بين الأساتذة والمشايخ الكرام الذين تتلمذت على أيديهم في معهد إمام الدعوة العلمي، فقد درسنا مقرر الفقه في الصف الثالث ثانوي، وكان عادلاً منصفاً بين الطلاب لا يفرق بين قريب أو بعيد، مخلصاً في عمله متقناً مادته. لقد كان رحمه الله حريصاً على تلاوة القرآن في أوقات فراغه فأتذكر عندما نحضر للمعهد في الصباح الباكر ويصادف ذلك اليوم ليس لديه الحصة الأولى يطلب منا أخذه للمسجد المجاور للمعهد لينفرد بعيداً عن الآخرين بالدعاء والصلاة وتلاوة القرآن، وكان من حرصه على التلاوة عندما تأتيه في وقت فراغه تجده قد اتخذ إحدى زوايا غرفة المدرسين ليقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم مستغلاً وقته ولو كان قصيراً في ذكر الله بعيداً عن القيل والقال، كان يرحمه الله من المواظبين على صلاة ركعات ما بعد شروق الشمس، فينتظر بعد الصلاة ليسبح ويهلل ويذكر الله حتى ترتفع الشمس ويصلي ما تيسر له من الركعات، أذكر أنه كان معي في صلاة على جنازة أحد الأقارب وكنا مستعجلين للحاق بهم وحضور الدفن في حريملاء، وإذا به يكبر وهو بجواري داخل السيارة، وبعد أن فرغ من صلاته قلت له يا عم ألم تصل معنا في المسجد قال نعم ولكن هذه السنة لم ألحق على تأديتها فخفت أن أنساها، الله أكبر ما أحرصه على النوافل لأنه يعلم أنها هي جبر الكسور ورقاع الفروض. من المواقف التي لا تنسى أن أول زيارة قمت بها لمكة المكرمة لأداء مناسك العمرة كانت بصحبته، وفيها من المواقف والدروس العلمية والثقافية والتربوية الكثير. لقد تعلمت من العم أسكنه الله فسيح جناته الشيء الكثير، كان محباً للخير فما أن يذكر عنده محتاج سواء كان قريباً أو بعيداً إلا وتجده أول المبادرين بمساعدته، ومن صفاته يرحمه الله أنه كريم يحب أن يكرم من يلقاه ويسعد بمن يقبل دعوته ويسر بمن يدخل مجلسه، عندما نعود من سفر ولو كان قصيرا (يوم أو يومين) يلح على دعوتك في منزله ويشعرك أنك قد غبت أشهراً ليس أياماً. كم أفرحني هذا العم الحنون وكم أسعدني وكم أدخل السرور إلى قلبي بتلك المواقف التي لا تنسى بعطفه وشفقته ورحمته وحبه للخير. ولمن لا يعرف العم سعد (أسكنه الله فسيح جناته) فهو من مواليد محافظة حريملاء عام 1353ه، فقد بصره وهو في الرابعة من عمره، بسبب مرض ألم بعينيه، إلا أن ذلك لم يقعده عن طلب العلم، حيث التحق بمدرسة الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم عام 1363ه واستمر فيها حتى عام 1370ه، وأثناء دراسته عند الشيخ ابن حرقان كان يدرس عند القاضي الشيخ عبدالرحمن بن سعد يذهب بصحبة أخيه (العم) عبدالعزيز، فدرس الأصول الثلاثة وكشف الشبهات، والنخبة في مصطلح الحديث، وكتاب الرحبية في الفرائض، والأجرومية. وحفظ القرآن الكريم كاملاً، وفي رمضان من عام 1371ه صلى إماماً بأسرة الأميرة شيخة بنت عبدالرحمن آل سعود. وفي عام 1372ه التحق بالدراسة في معهد الرياض العلمي (أربع سنوات)، وفي عام 1376ه التحق بكلية الشريعة (أربع سنوات). وفي 10/4/1380ه عين مدرساً في معهد شقراء وكان بصحبته (والدي) أخوه حمد الذي كان طالباً في المعهد، فأمضى في معهد شقراء العلمي سنتين ثم انتقل إلى معهد الرياض العلمي واستمر فيه مدرساً حتى انتقل إلى معهد إمام الدعوة عام 1390ه، كان يدرس مواد (القرآن، تفسير، حديث، فقه، الفرائض، المطالعة، التاريخ)، واستمر في معهد إمام الدعوة العلمي حتى تقاعد عام 1417ه. كان محباً لوطنه وولاة أمره ويثقون في علمه ورأيه، حيث كلف بإمامة أسرة الملك فيصل (يرحمه الله) لصلاة التراويح في رمضان من عام 1384ه حتى عام 1395ه. فهذا قضاء الله وقدره ولنتذكر دائما أن الموت حق وهذه سنة الله في خلقه، وطريق الكل سالكه. يقول سبحانه وتعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) ويقول تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون). رحم الله العم رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته، وألهمنا وأهله وأولاده الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون.