فارس الطفل ذو الست سنوات دخل المدرسة لتوّه، دخل المدرسة بطفولته الغضّة وقلبه الأبيض ولسانه الصادق وعقله المندهش وخطاه الوجله، وفي أول يوم وجد عددا من الأطفال الذين يوافقونه سنا وصدقا وبياضا ودهشة، وكانت من أولى علامات التوافق بينهم الانخراط في حالة من بكاء الدهشة لغربة المكان، ثم شيئا فشيئا هدأت النفوس وبدأ الاعتياد على الوضع الجديد بكل تفاصيله، ثم بدأ تبادل الابتسامات التي تحولت مع الوقت إلى أسئلة وضحكات. بعد نهاية الأسبوع التمهيدي ودخولهم لحجرتهم الدراسية، كانت البراءة هي عطر المكان، والصدق بخوره، والبساطة بساطه، فقد بدا وكأن هؤلاء الأطفال يعرفون بعضهم من سنوات، فخلال الاستراحة بين الحصص تجد فارس يطلب من أحمد أن يريه محتويات حقيبته، ومحمد يطلب من أمجد أن يتبادلا مقاعدهما لبعض الحصص، وخالد يطلب من سعود أن يتبادلا أقلامهما الرصاص. ويعود أحمد ليطلب من فارس أن يعطيه طاقيته ليجربها على رأسه، وحينما تبدو كبيرة على رأس أحمد يغص المكان بضحكات البراءة التي تملأ فضاء الكون لا المدرسة والفصل فقط، وهناك في ركن آخر من الفصل غالب يجرب حذاء سعود، ويستعرض به داخل الفصل. هناك أيضا يقف إبراهيم وجبران لقياس أيهما أطول من الآخر، حيث يتحول الجميع إلى لجنة تحكيم، وتختلف الأحكام حتى ينتهي الأمر بنتيجتين فريق يقول إبراهيم الأطول وفريق يقول جبران الأطول، وكانت من أجمل صور البراءة والحميمية أن تجد خالد يقفل لمحمد أزرار ثوبه وسعود يساعد غالب في لبس حذائه وفارس يساعد إبراهيم في إقفال حقيبته، وفجأة تنطلق المطاردات والركض التنافسي. كان يكفي أن يلمس أحدهم الآخر ليشارك الجميع في الركض والمطاردة وما يصاحبها من صدامات تلقائية تزيد مساحة السعادة في قلوبهم الغضة، وكان للطابور الصباحي طقوسا خاصة يمارسونها، مثل التسابق على المركز الأول في الاصطفاف، وتبادل الأماكن، وحينما تأتي فسحة الإفطار يتحلقون حول بعضهم ويتبادلون قارورة الشطة وتجد إبراهيم يأخذ من أحمد البيض وفارس يأخذ من سعود البطاطا، كما يتشاركون في الشرب من علبة عصير واحدة.. وحينما يشتري سعود البسكويت يحرص أن يتذوقه معه الجميع ولو بقدر كسرة صغيرة، ويأتي فارس راكضا ليطلب من إبراهيم إعطاءه ريالا، ويخرج إبراهيم الريال فورا وبدون أسئلة ويعطيه لفارس، كما كانوا يحرصون على تبادل أدواتهم حتى اليوم التالي، وتجد أحدهم يخبر أسرته بفخر وحبور أن هذا قلم فلان، وأنه أعطى ألوانه لفلان، وحينما يلتقي اثنان منهما خارج نطاق المدرسة في الجامع يوم الجمعة أو في السوق تجحظ العيون وترتفع الأيادي وترتسم الابتسامات مرحبة وسعيدة بهذا اللقاء، بل ويتسابقون في اليوم التالي لإخبار بقية الزملاء بذلك اللقاء. وكان الهدوء يسود فقط عند حضور الأستاذ، وفي حصة الرياضة يكون التساؤل والإعجاب بالملابس الرياضية وألوانها، كما يكون الصراع الجميل على الكرة وركلها بكل أعضاء الجسم، وأما إذا دخلت الكرة المرمى فتمضي بقية الحصة في فرح وحبور فهدف واحد يكفي لإنهاء اللعبة، وحينما يسترجع أحد الزملاء داخل الفصل يهب الجميع إلى مدير المدرسة لإخباره بمرض فلان! وكل واحد يروي قصة المرض بطريقته! هكذا مضى العام الدراسي وهم يملئون المدرسة صدقا وفرحا وبراءة وانتهى العام الدراسي، وجاءت الإجازة وقلت اللقاءات، ثم تجدد اللقاء في الصف الثاني الابتدائي بنفس الأحاسيس واللغة، واستمر الأمر كذلك في الصفين الثالث والرابع، وفي الصفين الخامس والسادس بدأت الأحاسيس واللغة تتغير شيئا فشيئا نحو الشلليّة والتحديات، وفي المرحلة المتوسطة تغيرت الأحاسيس كثيرا، وتبدلت اللغة كثيرا، واختلفت العلاقات أيضا، ووصلت الأمور إلى الخلافات والصراعات. كان فارس يراقب ويحلل ويقارن كل ما يجري، وكان يحن إلى الماضي الجميل، لدرجة أنه كان يحب الذهاب للصف الأول الابتدائي ليراقب طلابه ليستعيد زمن الضحك البريء والركض الجميل والصدق والبساطة، وفي يوم من الأيام وبينما هو يقف على باب الصف الأول ابتدائي كعادته كل يوم لم ينتبه إلا والأستاذ المشرف يربت على كتفيه قائلا: انتهت الفسحة يا فارس.. هيا اذهب إلى فصلك.. تحرك بارك الله فيك.