مما لاشك فيه ان الاحتفاء باللغة العربية له ما يبرره وقد بدأ العالم يشارك الامة العربية في الاحتفاء باللغة العربية وهي جديرة بذلك, كما ان العرب يشاركون أمم العالم بالاحتفاء بلغاتهم ومن حق كل أمة ان تحتفي بلغتها لاسيما الدول الست المعتمدة لغاتهم في المحافل الدولية ومن ضمنها اللغة العربية. واحتفاء العرب باللغة العربية وان جاء متأخراً إلا ان ذلك يرمز إلى بوادر يقظة واهتمام من قبل العرب إزاء لغتهم العربية العظيمة المتفوقة على جميع لغات العالم بغزارة مفرداتها وعلو كعبها في البيان والبديع والمعاني وجمال خطها وامتلاكها لما يزيد عن ستة وثلاثين صوتاً لا يجاريها في ذلك لغة أخرى، وتملك ما يزيد عن خمسة عشر بحراً من الشعر لا نظير له في أي لغة، وتمتاز بوضوح حرفها في مجال التعليم والتعلم وجماله. يقول أحد المحاضرين في جامعة اسطنبول لقد كنت أُعلّم الطلاب الأتراك العلم بالحرف العربي ويفهمون مني سريعاً وبعد إلغاء الحرف العربي على يد «أتاتورك» واستبداله بالحروف اللاتينية أصبحت أكرر المعلومة عدة مرات على أسماع الطلاب ويستعصي عليهم فهم ما أقول». وفوق ذلك امتازت اللغة العربية بأن الإنسان الذي ينطق العربية ويكتبها يستطيع ان يقرأ ما كتب قديماً بيسر وسهولة ولو مضى على كتابته ما يزيد على خمسة عشر قرناً من الزمان ولذلك قال علماء الألسن إن اللغة العربية ستكون الوارثة لجميع اللغات في نهاية المطاف. وعلى هذا يمكن القول بأن الأمة العربية خاصة والأمة الإسلامية بعامة جميعهم محظوظون بهذه اللغة التي اختارها الله جل وعلا لتكون لغة القرآن ولغة هدي محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فهم يستمتعون بسماع أصوات المؤذنين التي ترفع في مآذن المساجد في مشارق الارض ومغاربها في كل يوم وليلة خمس مرات بأعذب الأصوات وألذها وازكاها تحمل النداء لأداء الركن الثاني من أركان الإسلام ويصدع المؤذنون بكلمة التوحيد «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله». ويستمتع المسلمون عرباً وغير عرب بسماع أحسن الأصوات من أفاضل قراء القرآن ومقرئيه وأئمة الحرمين وغيرهم فيبتهجون ويخشعون ويتعلمون ويعلمون «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» ولا نظير لهذا في العالم وأيضاً يستمتع المسلمون باللغة العربية الفصحى في التلبية في الحج والعمرة وفي التكبير في العشر الأول من شهر ذي الحجة لغير الحاج في كل عام إلى غير ذلك. وفوق ما ذكر فالمسلم يستمتع بتلاوة فاتحة الكتاب في صلاته فريضة كانت او نافلة ويتأمل المسلم بمتعة وخشوع حزام ثوب الكعبة المشرفة كتابة ومعنى في شكله ومضمونه إنها اللغة العربية الفصحى العظيمة. وفيما يختص بعلوم الحضارة والعمران فللغة العربية الفصحى إسهامها التاريخي الممتع والمشرف فقد حملت بجدارة وبدقة عالية علوم عصر حضاري امتد نحو عام 700م إلى ما بعد 1600م لأن المسلمين من العرب وغير العرب في أثناء العصور الأوروبية الوسطى كانوا رواد ميادين علمية متنوعة كالطب والميكانيكا وعلم الخرائط وفن رسمها والكيمياء والتربية والتعليم والهندسة والعمارة وعلم الفلك والرياضيات بمختلف فروعها فلم يكن حقل من حقول المعرفة غائباً عن اهتمامهم أو بعيداً عن عقولهم في تقصيتاهم المعززة بالتجارب العلمية الصارمة. انظر كتاب «ألف اختراع واختراع» الذي صادف نشره قيام معرض إثراء المعرفة بموقع معارض الرياض تحت إشراف أرامكو وقد أسهم مشكوراً في نشر هذا الكتاب مترجماً إلى اللغة العربية/ عبد اللطيف جميل وكانت كل مؤلفات العلماء المتخصصين في علوم الحضارة والعمران مكتوبة باللغة العربية الفصحى وبالحرف العربي خلال الفترة من 700م إلى ما بعد 1600م واعتُمد عليها في ترجمة العلوم. لقد كانت اللغة العربية ممتعة وواعدة بحق ومشرفة في كل احوالها ألا فلنحب اللغة العربية قولاً وعملاً. ومن حق العرب خاصة أن يستثمروا اللغة العربية في التعليم والتعلم وفي استثمارها غبطة ومصلحة لأن الطالب العربي والطالبة العربية إذا تعلموا العلم بلغتهم العربية أبدعوا وتفوقوا وبجودة التعليم تنهض الأمة العربية وتتقدم كما تقدمت الأمم الذين يدرسون أبناءهم وبناتهم بلغاتهم. يقول الخبراء والباحثون إن الإنسان لا يمكن أن يبدع بغير لغته التي نطق أول ما نطق بها ونشأ منذ حداثته عليها مستمعاً إليها ومتحدثاً بها حتى تترسخ في ذاكرته ووجدانه وعقله وحتى يتكون لديه إحساس عميق بها وشعور مرهف لها, وهذا لا يتنافى أبداً مع تعلمه لعدد من اللغات الأخرى التي قد يحتاجها في حياته العلمية أو في اطلاعه على إنتاج غيره من أصحاب اللغات المغايرة وذلك بعد إتقانه للغته الأم, وهذه الحقيقة فهمتها أمم العالم حق الفهم فعلَّموا أبناءهم جميع العلوم بلغاتهم فنجحوا وتفوقوا غير أن العرب لم يعوا هذه الحقيقة ولم يفهموها حق الفهم فعلَّموا أبناءهم وبناتهم بغير العربية فأخفقوا وتخلفوا وفشلوا في تعليمهم على مدى قرنين من الزمان ابتداءً من فتح كلية الطب في ابي زعبل بمصر عام 1827م إلى الآن وقد مضى عليها ستون عاماً وهي تعلم باللغة العربية بنجاح وتفوق إلى أن غير الأجنبي لسانها إلى اللغة الأجنبية، ومن ذلك التاريخ إلى الآن والأمة العربية تعاني من ضعف المعلم وضعف المتعلم، ويضيف الباحثون قائلين إذا كان العرب حقاً يريدون لأبنائهم ولبناتهم أن يتفوقوا فعليهم أن يعلموهم بلغتهم العربية الفصحى. وفي هذا السياق يقول أحد الباحثين «لقد أدركت من تجربتي الطويلة في التعليم الجامعي والتي بدأت في أوائل الخمسينات من هذا القرن أن الطالب العربي الذي يتعلم بغير العربية يواجه صعوبات جمة في فهم اللغة الاجنبية كلغة, واستيعاب المادة العلمية التي تعبر عنها تلك اللغة كمضمون وذلك لان كل لغة من اللغات لها أصولها وقواعدها وضوابطها واشتقاقاتها وروابطها الجذرية مع عدد من اللغات الأخرى، ويتجلى ذلك اكثر ما يتجلى في مجال العلوم البحتة والتطبيقية التي اتفق الغربيون على نحت مصطلحاتها من جذور لاتينية أو يونانية ليسدوا الطريق امام إمكانية نهضة جديدة باللغة العربية بعد ان نقلوا تراث المسلمين المكتوب بالحرف العربي وباللغة العربية الفصحى إلى لغات أوروبية وبخاصة اللغتان اللاتينية واليونانية وقد أصبح إتقان هاتين اللغتين من المتطلبات الأساسية لدراسة العلوم بعد أن كان تعلم اللغة العربية من شروط الجامعات الأوروبية على الدارسين في أي من مجالات الطب أو الهندسة أو العلوم البحتة حتى مطلع القرن التاسع العاشر». ويضيف قائلاً «إذا أدركنا جهل الطلاب العرب بهاتين اللغتين بل جهل غالبية المتخصصين العرب» بهما وبقواعدهما وبضوابط الاشتقاق منهما أدركنا مدى الصعوبات التي «يضعها العرب» أمام أبناء الأمة العربية من الطلاب والمتخصصين حين يفرض عليهم أن يتعلموا بلغات أجنبية فإذا أضفنا - والقول للباحث - إلى تلك الصعوبات تدنِّي مستوى تدريس اللغات الأجنبية في مختلف مدارس الدول العربية بصفة عامة زاد إدراكنا لحجم الصعوبات التي يواجهها طلاب الدراسات العلمية والتقنية حين يفاجؤون -في مطلع دراستهم الجامعية- بالمحاضرات تلقى عليهم بلغة أجنبية لا يتقنونها ولا يفهمون دلالة الأصول اللاتينية واليونانية لمصطلحاتها فلا يملكون حيالها إلا الانهزام والفشل والانسحاق النفسي تحت معاولها أو الحفظ والترديد الببغاوي الذي يملأ القلب بالانكسار والشعور بمركبات النقص والذي قد يفيد على صفحات أوراق الاختبار، ولكنه بالقطع لا يمكن أن يفرز إنساناً مبدعاً على الرغم من وجود عدد من الحالات النادرة التي أمكنها الإبداع لطاقات خاصة بها أمكنتها من التغلب على تلك الصعوبات المعوقة والحائلة دون إمكانية الإبداع». ويضيف الباحث قائلاً «إذا تخرج الدارس من جامعته دون فهم صحيح ودقيق لقواعد وأصول العلم الذي تعلمه والتخصص الذي انخرط فيه استحال عليه الإبداع فيه ولو نال أرقى الشهادات ووصل إلى أعلى الدرجات العلمية، ولا قياس هنا بحالات الإبداع الفردية التي يمكن إرجاع نجاحاتها إلى قدرات خاصة بأصحابها ..إلخ» ما أورده الباحث انظر كتاب الأستاذ الدكتور زهير أحمد السباعي, ص10 وما بعدها طبعة نادي المنطقة الشرقية الادبي. وختاماً نقول: إذا كان الطالب العربي كما وصف الباحثون تواجهه صعوبات جمة حينما يدرس العلوم بلغة أجنبية، فإن الإنسان عربياً كان أو غير عربي لا يمكن أن يبدع بغير لغته الأم وإن أمم العالم قد فَقُهت هذه الحقيقة وعملت بمقتضاها حينما علَّمت أبناءها بلغتهم، وإن الأمة العربية لم تفقه هذه الحقيقة واستجابت لما فعله المستعمر الذي ركز عامداً على تعجيم اللسان العربي فأصاب التعليم في مقتل وحقق المستعمر مراده في قهر الأمة العربية والحيلولة دون تقدمها حينما اغتال لسان التعليم العربي بالتعجيم, نقول إذا كان الحال على هذه الصورة البشعة وأن الأمة العربية قد خدعت في تعليمها ألا يمكن القول بإعادة النظر في واقع لسان التعليم وبخاصة ما يدرس حالياً باللغة الأجنبية من العلوم الطبية وعلوم الهندسة والعلوم البحتة وعلوم الحاسب وغيرها بحيث يُدرَس الموضوع بوضوح وشفافية ويقرر في هذا الخصوص ما يخدم مصلحة الأمة العربية ويضمن تقدمها كسباً للوقت لا شك أن لدراسة هذا الأمر ما يبرره.