باستعراض كتب أدب الرحلات يتبين أن الأندلسيين والمغاربة لهم علاقة من نوع خاص بالديار المقدسة كونت تراثاً أدبيا ضخماً حواه أدب الرحلات لهذه الديار لعدد من الرحالة الكبار حيث جعلوا من القيام بفريضة الحج حافزا للطواف حول العالم ضمنوها انطباعاتهم التي تعد من أدق المعلومات الجغرافية والتاريخية والأدبية وإن الحج بالنسبة للحجاج رحلة دينية سامية الغايات وهي أمنية العمر ومناط الأمل. ونلتقي مع الأستاذ عبدالله كنون رحمه الله حيث قام بتسجيل رحلة إلى هذه الديار وهو أحد العلماء الأفذاذ والمحافظين على اللغة العربية وآدابها ورائد الأدب المغربي المعاصر، وهو شخصية معروفة في العالم الإسلامي والعربي، له ما يزيد عن مائة بحث مطبوع في شتى الفنون، ولد بفاس عام 1908م وتتلمذ على والده العلامة محمد كنون وعلى أعلام مدينة طنجة حفظ القرآن الكريم وعمره أثنتا عشرة سنة، ونظم الشعر وعمره إحدى عشرة سنة، تولى أعمالاً علمية وترأس تحرير مجلة (لسان الدين) بتطوان بتعاون مع د. تقي الدين الهلالي وصحيفة الميثاق لسان رابطة علماء المغرب، وعضوا عاملاً في عدة مجالس علمية عربية وإسلامية ورئاسة تحرير مجلة لسان العرب، توفى رحمه الله يوم 30 ذي الحجة 1404ه الموافق 9 يوليو 1989م. من أهم مؤلفاته (النبوغ المغربي في الأدب العربي - ومشاهير رجال المغرب- وأحاديث عن الأدب المغربي - وأدب الفقهاء. وقد نشر رحلته الحجازية ضمن كتابه (تحركات إسلامية) وفي مقدمة كتابه تكلم عن أنواع أدب الرحلة وقال: (الكتاب الذي بين يدي القارئ هو ما يتصل بغالب هذه الأغراض، ففيه من السفارة نصيب، والحج أهم مقاصده، ولقاء برجالات الإسلام والعمل معهم يدا بيد على ما فيه خير الملة والدين، مما هو ثمرة العلم ، وهو المحور الذي تدور حوله هذه الرحلات ولذلك أطلقت عليه اسم (تحركات إسلامية)، وهو كتاب في أدب الرحلات، وقد دون فيه مؤلفه رحلته الحجازية على رأس البعثة الرسمية التي أوفدها جلالة الملك الراحل محمد الخامس إلى الملك سعود سنة 1376ه - 1957م. كان سفره إلى الحج بحراً على متن باخرة انطلاقاً من ميناء طنجة إلى مرسليا وبور سعيد، ووصولاً إلى جدة التي أقام فيها ثلاثة أيام كانت مليئة بالنشاطات والاتصالات، وعن أبرز اشخصيات التي التقى معها في مدينة جدة قال: (هذا وقد اجتمعنا في ججة بعالمين جليلين، طالما سمعنا بهما وتمتعنا بآثارهما، وهما الشيخ عبدالعزيز الميمني والأستاذ خير الدين الزركلي، أما الشيخ الميمني فقد هبط الحجاز حاجاً مثلنا، وأما الأستاذ الزركلي فقد قدم من مصر للاتصال بالملك سعود، ومن المعلوم أنه كان مندوباً لجلالته لدى الجامعة العربية، وعين أخيراً سفيراً للمملكة العربية السعودية في المغرب، وكنا علمنا بهذا ورحبنا به، فوجدناه مبتهجاً مسروراً، وتجاذبنا وإياه أطراف الحديث، وكذلك تحدثنا إلى الشيخ الميمني، أحاديث علمية مفيدة، ووصف المشاهدات الجغرافية والعمرانية. وعلمنا أيضاً بوصول صديقنا الأستاذ الدكتور محمد تقي الدين الهلالي فابتهجنا بلقائه، وكنا إليه بالأشواق إذ كانت صلتنا به أيام مقامه في المغرب، قوية جداً وترك في أنفسنا فراغاً لا يسده غيره. وكنا نتوق إلى التعرف برجل جدة وفاضلها الشيخ محمد نصيف، فقد طالما حدثنا الصادرون والواردون عنه ورأينا كثيراً من الكتب التي قام بنشرها انتصاراً للدعوة السلفية، وتمكينا لها في البلاد الإسلامية ولكنه مع الأسف لم يكن في جدة آنذاك، بل سافر إلى الشام للاصطياف هناك، وقد قابلناه في مصر عند سماحة مفتي فلسطين، وبعد زيارة صاحب الرحلة لمكةالمكرمة والمسجد الحرام والمشاعر المقدسة ووصف ما في الحج من مواقف ومشاهد والالتقاء بالعلماء انتقل إلى المدينةالمنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام حيث يقول: امتطينا الطائرة المتجهة صوب المدينةالمنورة، وكان ركوبنا لها قبل الفجر بقليل وإن كانت هي لم تنهض إلا بعد الأذان الذي سمعناه من مسجد المطار (وفي المطار مسجد)، وهكذا سرعان ما امتلأت جميع المقاعد التي كانت فارغة وطلعت الطائرة في الجو وكنا نحن على وضوء فمنا من صلى في مقعده ومنا من انتظر النزول في مطار المدينة حتى يصلي على الأرض ولو في آخر الوقت لا سيما ومدة السفر أقل من ساعة فما كان أسرع من انتشار نور النهار في أنحاء الأفق، وإذا بنا لا ننزل إلا وقد أقبل النهار من هاهنا وهاهنا، وفهمت كيف وقعت القضية الوادي التي وردت في الحديث إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأكرمون على أهبة لصلاة الصبح... وهم ينتظرون طلوع الفجر وقد ضربتهم الشمس.. إن ما بين الفجر هنا والشروق متقارب جداً، أليس هو الشرق؟. وهبطنا الأرض وأي أرض هي؟ إنها الأرض التي آوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبغ بها بديلاً بعد، وكان يدعو الله أن يحببها إليه وإلى أصحابه من المهاجرين كحبهم مكةمسقط رؤوسهم أو اشد، إنها الأرض التي عرفت دعوة الحق فأيدتها وناصرتها وأصبحت دار الإيمان الأولى، كما قال الله سبحانه وتعالى فيها: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} (9) سورة الحشر هي المدينة بل الحقيقة فلا مدينة غيرها كما أنه لا مدينة (بفتح الدال) غير المدنية التي نشأت بين لابيتها هي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم مهبط الوحي ومواطن الجهاد وقرارة العلم الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، هي المدينة التي تثبت في كل لحظة صلة الأرض بالسماء وصلة ساكنها عليه السلام بالرفيق الأعلى فأين منها مدن الناطحين (للسحاب)؟ ويواصل حديثه عن طيبة الطيبة قائلاً: الله أكبر، هذا أحد، الجبل الذي يحب الرسول ويحبه الرسول، وهذه قباء، حيث المسجد الذي أسس على التقوى، من أول يوم، وهذه القبة الخضراء يغمرها النور يتغمدها الرحمان، وتحف بها ملائكة السماء: هذه دارهم وأنت محب مانعا للدموع في الأماق؟ ويفيض في الحديث بعد ذلك عن زيارة مسجد رسول الله وفي ذلك قال: (وقمنا نتجهز للزيارة الكريمة بتجديد الطهارة لبسنا أحسن الثياب وأوقرها وطيبنا. هذا هو المسجد الذي وضعت فيه أسس العلم الإسلامي كله والعلم الإسلامي يعني هذه الحضارة الزاهية التي عاش العالم ولا يزال يعيش في ظلالها موفقا بين مطالب الروح والجسد. وجامعا بين سعادة الدين والدنيا، هذا أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال لغيرها، ونحمد الله أننا لم نخالف عن هذا الأمر قط، طاعة لله ورسوله، هذا هو المسجد الذي الصلاة الواحدة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه فتعال بنا نغتنم هذا الفضل ونصلي تحية المسجد بهذه النية راجين القبول من المولى الكريم. وانصرفنا إلى المواجهة الشريفة لا أستطيع أن أعبر عما خامرنا من شعور الهيبة والإجلال لذلك المشهد العظيم، ووقفنا كأنما على رؤوسنا الطير، وخشعت أبصارنا، ووجفت قلوبنا، وكانت لحظة بمثابة العمر، انطلقت فيها ألسنتنا بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم ودعاء الله عز وجل أن يجزيه عنا افضل ما جزى نبيا عن أمته، ثم السلام على صاحبيه وخليفتيه، الصديق والفاروق رضي الله عنهما ورجعنا بعده إلى المكان الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) نرتفع بما يناسبه من دعاء وتفكر، وقراءة وتدبر، وصلاة وزيارة لمعالم المدينةالمنورة ومساجدها وآثارها ومشاهدها فجاءت رحلته هذه مكتوبة بلغة سهلة ملائمة لموضوعها وهو يصف ما يشاهده وصفاً حيا دقيقا ويترك نفسه على سجيتها فلم يتكلف في عبارة ولا في فكرة ونراه يذكر ما داخله من مشاعر وأحاسيس إزاء بعض المواقف فكانت رحلته عامرة بالعلم ومفعمة بالأمور الثقافية ومليئة بصنوف الآداب وجسد عبر هذه الرحلة المعاني العظيمة لرحلة الحج والذي فرضه الله على عباده لتبادل المنافع وللذكر والشكر ولأخذ العبرة والمثل فاللقاء في هذه الرحاب الطاهرة مجال عظيم وميدان كبير يتبارى فيه العلماء والخطباء والرحالة فيما يعود بالنفع والفائدة حيث يكتظ الحرمان الشريفان من كل عام بألوف الحجاج في غبطة وبهجة روحية عميقة ليؤدوا فريضة محتومة عليهم ويقوموا بركن من أركان دينهم الحنيف وأن يتطهروا من أدران الذنوب ويشهدوا منافع لهم من اجتماعية وأدبية ومادية. وبالجملة فقد أفاض رحلتنا في وصف الإحساس والشعور الذي امتلكه وحرص على تسجيل كل ما يشاهده في مهبط النور ومهد الإسلام وبذلك تتجلى رحلة الحج من خلال رؤية الرحالة مع التحقيق والتدقيق في الرؤية ووصف دقيق وتصوير بديع بهذه البقاع الطاهرة التي دون المغاربة عنها الكثير في رحلاتهم وتطلعوا إليها بشوق ولهفة. ولقد ذكر ابن خلدون في مقدمته (أن رحلة المغاربة كانت غالباً للحجاز وهي منتهى سفرهم والمدينة يومئذ دار العلم) ولقد قرأنا العديد من أفواج الرحالين المغاربة الذين شدوا الرحال إلى هذه الأماكن المقدسة وكل منهم كون صورة معينة عن هذه الرحاب الطاهرة والتي ترتفع دعوات المسلمين وتتجه إليه أنظارهم خمس مرات في اليوم، حيث دونوا انطباعاتهم التي تعد من أدق المعلومات التاريخية والجغرافية والاجتماعية والأدبية في كل ما وصفوه وذكروه خلال رحلات الحج حيث تعلقت قلوبهم بالمكان وشدهم العبق الإيماني الجميل، وكان الحج من أهم العوامل التي دفعت بهؤلاء وغيرهم من المسلمين لشد الرحال إلى مكةالمكرمة وأداء الركن الخامس من أركان الإسلام.