من المحزن بمكان ما تقوم به البنوك الخليجية تجاه ما يعرف باستدامة توليد المواهب في قطاع التمويل الإسلامي. فأصبحوا بمثابة البيئة «الطاردة» لتلك المواهب. فلم يقوموا بتمويل بعثات الطلاب الذين يرغبون بالتخصص في المصرفية الإسلامية ولا الذين هم رحبوا بأولئك الطلاب الذين رجعوا وهم يحملون مثل هذه التخصصات النادرة. وأقول ذلك من تجربة شخصية معهم. تخيل عزيزي القارئ أن أول عقد وقعته عندما أنهيت دراستي العليا في أوروبا (وذلك بحصولي ولله الحمد على شهادتين ماجستير في المالية الإسلامية والمصرفية الاستثمارية) كان مع مؤسسة غربية.. ولكن ما الضير إذا ما جعلنا الأرقام تتحدث بنفسها. فوفقا لآخر دراسة بحثية من قبل «إرنست ويونغ» (Ernst الجزيرة Young) فإن حصة الأصول المصرفية الإسلامية من إجمالي القطاع المالي بالسعودية تصل إلى 49% وهذا ما يعادل 207 مليار دولار بنهاية السنة الماضية. فإذا كان هناك من يريد المصرفية الإسلامية فلماذا لا تهتم قياداتنا المصرفية بالطلاب السعوديين الذين درسوا الصرافة الإسلامية بالخارج؟ وإلى متى سيستمرون في الإعتماد على الخبرات الآسيوية حتى مع كون ابن البلد يحمل تخصصات أعلى منهم؟ فما الفائدة التي ستجنيها بنوكنا الخليجية من توظيف مواردها المالية نحو استمالة المواهب الباكستانية والماليزية بدلاً من الاستثمار بالطلاب الشباب عبر ابتعاثهم ومن ثم توظيفهم بعد أن يرجعوا بأكبر الشهادات في تخصص الصرافة الإسلامية. تسرب المواهب ربما قد يكون من الأفضل بمكان أن نأخذ العبرة من التجربة الماليزية ونرى كيف تتعامل مصارفهم مع تسرب المواهب هناك. لعلني هنا أقتبس من تحقيق أجرته صحيفة «بيزنس تايمز» الماليزية حول هذه الظاهرة.. يقول التقرير: «لو كنت رئيساً لبنك إسلامي ما الذي يمكن أن تفعله لمنع أحد الموظفين لديك من العمل لدى بنك شرق أوسطي منافس يمكن أن يعطيه مرتباً يزيد على المرتب الذي تعطيه إياه بأربعة أضعاف؟ لقد كان بمقدور داود فيكاري عبدالله رئيس العمليات البريطاني الأصل لدى بنك التمويل الآسيوي أن يفعل ذلك دون أن يدفع مزيداً من النقود. يقول داود: «تمكنت من إقناع أحد المصرفيين الماليزيين بعدم الذهاب للعمل في السعودية بعد أن أدرك أن المال سيكون جيداً وأن خبرة العمل في الرياض ستكون شيئاً مهماً في سيرته الذاتية، لكني سألته: هل ستتعلم في الحقيقة أي شيء في مجال تخصصك؟ وخلص إلى الجواب بالنفي». لقد اقتنع ذلك الموظف أن البقاء في ماليزيا سيمكنه من تعلم المزيد والتقدم في مستقبله الوظيفي بشكل أسرع. وأضاف المصرفي الغربي: «في معظم الحالات سيكون مصير أولئك المصرفيين الذين يتوجهون للعمل في الخارج الاستنزاف. إنهم يدفعون لك الأموال مقابل قوة دماغك، ولكنك لن تتعلم أي شيء جديد.» انتهى التقرير إلى هنا. فالماليزيون ينظرون إلى الخليج على أننا متأخرون في مجال تطوير المنتجات وهم محقون في ذلك تماماً بعد أن سبقونا في تطوير هذه الصناعة. فعندما لاحظ الماليزيون في 2007 أن مواهبهم المتخصصة بدأت في التسرب لمنطقة الخليج وذلك تحت إغراء الراتب «المضاعف», قامت القيادات المصرفية باتخاذ العديد من المبادرات التي تهدف الى وقف «استنزاف» الأدمغة الموهوبة هناك. حيث تبنى البنك المركزي ولاعبون كبار في صناعة الخدمات المالية برنامج «القطاع المالي لإثراء المواهب». ويهدف برنامج صقل المواهب هذا إلى استقطاب الخريجين المتميزين من مؤسسات التعليم العالي المحلية والأجنبية للعمل في صناعة الخدمات المالية كالبنوك، التأمين، المصارف الإسلامية، والتكافل. دعونا نُعرج على الجاره الشقيقة لماليزيا. فقد ضربت سنغافورة -القادم الجديد في صناعة المال الإسلامية- مثالاً يحتذى به من قبل البنوك المركزية الخليجية عندما أعلنت عن تقديم حزمة مالية لدعم رأس المال البشري من الطاقات الشابة التي تنوي التخصص في دراسة علوم المالية الإسلامية. لتبرهن لجميع العاملين في الصناعة أنها تحمل في طياتها رؤية إستراتيجيه بعيدة النظر. حيث تقدم هيئة النقد السنغافورية (البنك المركزي) منحاً دراسية للطلاب السنغافوريين الذين ينوون دراسة الصرافة الإسلامية. والجميل عندهم أنه عندما يرجع الطالب من دراسته في الخارج, يجد وظيفته بانتظاره وليس كما يحصل عندنا.