«لو كان الفقر رجلاً لقتلته» بمثل هذه العبارة البليغة لخّص القائد العظيم خالد بن الوليد -رضي الله عنه- مدى المعاناة التي واجهتها البشرية في شتى عصورها من مشكلة الفقر التي لا يُعرف لها تاريخ معين بدأت فيه، لكن أغلب الظن أنها تضرب في القدم حتى لا نجد لها تاريخًا معينًا، ومع أن الفقر ليس حديثًا، الإ أن صوره قد تختلف من عصر إلى آخر؛ فمن يعدّ فقيراً اليوم قد لا يكون كذلك في العصور القديمة، والأغنياء قديمًا لو جاؤوا بثرواتهم اليوم لما عُدّوا أغنياء! وهكذا تبدو الظاهرة مترحلة في الزمان والمكان عبر التاريخ، غير أن ما يجمعها هو الحاجة، فيستوي من كان محتاجًا قبل عقود مع من هو محتاج اليوم، فكل مهم لا يجد ضالّته! ومنذ أن عرفت البشرية (الفقر) وهي تبتكر شتى الأساليب والطرق في مكافحته إدراكًا منها أن مكافحة الفقر هو في الواقع مكافحة للتخلف والمرض والأمية التي تُعد أبرز نتاجات هذه الظاهرة التي باتت تعصف بعدد كبير من المجتمعات! عرفت بنغلاديش العالم بتجربة فريدة من نوعها في مكافحة الفقر وهي فكرة (بنك الفقراء) وصاحب الفكرة وأول من أنشأ بنكًا للفقراء هو الخبير الاقتصادي «محمد يونس» الذي أسس في عام 1983م بنكًا تحت اسم مصرف (جرامين Grameen Bank) (وتعني بالبنغالية: مصرف القرية) ليكون بذلك أول مصرف في العالم يقوم بتوفير رؤوس الأموال للفقراء فقط، في صورة قروض من دون ضمانات مالية؛ ليقوموا بتأسيس مشروعاتهم الخاصة المدرّة للدخل، وذلك تأسيسًا على الضمان الجماعي المنتظم في صورة مجموعات مكونة من خمسة أفراد، ومراكز مكونة من ست إلى ثماني مجموعات. يقول البروفيسور محمد: «كنت أقوم في الجامعة بتدريس نظريات التنمية المعقدة، بينما كان الناس في الخارج يموتون بالمئات نتيجة للمجاعة القاسية التي تعرضت لها البلاد آنذاك، فانتقلت إلى قرى بنجلاديش أكلّم الناس الذين كانت حياتهم صراعًا من أجل البقاء، فقابلت امرأة تعمل في صنع مقاعد من البامبو، وكانت تحصل على نهاية كل يوم على ما يكفي فقط للحصول على وجبتين، واكتشفت أنه كان عليها أن تقترض من تاجر كان يأخذ أغلب ما معها من نقود -وقد تكلمت مع اثنين وأربعين شخصًا آخرين في القرية ممن كانوا واقعين في فخ الفقر؛ لأنهم يعتمدون على قروض التجار المرابين، وكان كل ما يحتاجونه من ائتمان هو ثلاثين دولارًا فقط، فأقرضتهم هذا المبلغ من مالي الخاص، وفكرت في أنه إذا قامت المؤسسات المصرفية العادية بنفس الشيء؛ فإن هؤلاء الناس يمكن أن يتخلصوا من الفقر، إلا أن تلك المؤسسات لا تقرض الفقراء وبخاصة النساء الريفيات! وبعدها بدأ البروفيسور مشروعًا بحثيًا علميًا لاستكشاف إمكانيات تصميم نظام مصرفي يصلح للفقراء من أهل الريف، وقد توصل إلى أنه إذا توافرت الموارد المالية للفقراء بأساليب وشروط مناسبة فإن ذلك يمكن أن يحقق نهضة تنموية كبيرة. وقد حقق المشروع بالفعل نجاحًا في محافظة «شيتا جونج» ثم امتد المشروع بمساعدة مصرف بنجلاديش إلى محافظات كبيرة، وفي عام 1983م تحول المشروع إلى مصرف مستقل باسم (جرامين Grameen Bank) ساهمت الحكومة فيه بنسبة 60% من رأس المال المدفوع بينما كانت ال40% الباقية مملوكة للفقراء من المقترضين، وفي عام 1986م صارت النسبة 25% للحكومة و75% للمقترضين. وحقق البنك نجاحًا ملحوظًا عبر تأسيس المشروعات وفق الفلسفة التي قام لأجلها البنك، فهو مشروع اقتصادي ذو أهداف اجتماعية، كما يسعى إلى القيام بالتسويق داخل وخارج بنغلاديش للمنتجات الوطنية، خاصة الناتجة عن الصناعات الريفية ذات الكثافة العمالية، إلى جانب تأسيس ودعم الأعمال والصناعات وتنظيم وتمويل المنتجات التقليدية وربطها بالقطاعات الحديثة. وحل مشكلة الفقر في مجتمعنا مسؤولية الجميع بما فيها الجهات المسؤولة عن مكافحة الفقر وخصوصًا في القرى والمحافظات؛ وهذه دعوة لها للاستفادة من مشاريع فلسفة بنجلاديش في محاربة الفقر واقتلاعه من مجتمعها؛ وكونها قادمة نموذج نجح في إيجاد توازن نسبي بين الإصلاح الاقتصادي وتداعياتها الاجتماعية.