السبي والاسترقاق في الحروب هو جزء كبير من الغنائم التي أحلها الله للمسلمين دون غيرهم. وهو أصل وعدم السبي والاسترقاق هو الاستثناء، لأنه حق للمجهادين بدليل أن رسول الله كان يستأذن من الجيش عند المنّ على أحد من السبي أو الرقيق، فإن لم يأذن بعض المحاربين عوّضه الرسول بأحسن منه. والشواهد أكثر من أن تُحصى في السنة الثابتة فمثلاً، عند البخاري في الثابت من الصحيح في بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن ما جاء في السبايا من حديث بُريدة قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أبغض علياً وقد اغتسل فقلت لخالد ألا ترى إلى هذا فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال: يا بريدة أتبغض علياً فقلت نعم قال لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك» (أي أن علياً أخذ سبية فجامعها واغتسل بعد ذلك).. وجاء في شرح الفتح «وقد استشكل وقوع علي على الجارية بغير استبراء، وكذلك قسمته لنفسه، فأما الأول فمحمول على أنها كانت بكراً غير بالغ ورأى أن مثلها لا يستبرأ كما صار إليه غيره من الصحابة، ويجوز أن تكون حاضت عقب صيرورتها له ثم طهرت بعد يوم وليلة ثم وقع عليها وليس ما يدفعه، وأما القسمة فجائزة في مثل ذلك ممن هو شريك فيما يقسمه كالإمام إذا قسم بين الرعية وهو منهم، فكذلك من نصّبه الإمام قام مقامه.» انتهى.. من كلام ابن حجر. فلعل الذي أشكل على بُريدة هو جماع المرأة بغير استبراء، لا أصل السبي والاسترقاق. فلهذا كان هذا من أهم الأدلة عبر عصور المسلمين. تُستبرأ المُتزوجة والثيب بحيضة وقيل حيضتين ولا تُستبرأ البكر بهذا الحديث. ولكن لم يكن هناك قولان أو أي خلاف في جواز السبي والاسترقاق في الحروب والغزوات والسرايا الصغيرة وحتى البعثات الصغيرة التي لم يكن الأصل فيها القتال، كما هو في الحديث السابق. وقد سبى رسول الله عليه الصلاة والسلام واسترق في غالب غزواته وبعثاته، ولا أعلم أنه سلم من السبي والاسترقاق إلا أهل مكة. والعرب وغيرهم في ذلك سواء، وقد كان هناك سبي واسترقاق عظيم في غزوة حنين وتوابعها، وكان مما سُبي الشيماء بنت الحارث أخت رسول الله من الرضاعة. فلما عنّفوا عليها في السوق - عند بيعها -، فقالت للمسلمين: تعلمون والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة؟ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله فعرفها رسول الله بعضة منه عليه السلام في ظهرها.. واستأذن الجيش في المنّ عليها بتخلية سبيلها. كما جاء في صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي) وفي غيره بعشرة رؤوس. ثم يأتي بعد ذلك اليوم من يزعم الفقه أو ينتسب إليه فيُنكر الاسترقاق والسبي والرق في الإسلام أو يُجادل فيه بنحو من الإنكار أو بجدل بيزنطي ليُدين أعمال داعش. وما درى أنه قد أقوى حجة داعش بإنكاره ما هو معلوم وثابت بالتواتر من شريعة المسلمين.. وإنكاره مما يُعد من مفاخر تاريخ المسلمين، التي يتخدرون بذكرها واسترجاعها ليُنسيهم موقعهم اليوم في مؤخرة الأمم.. وكذلك هو في الرق.. فتجدهم يحاولون تبرئة الإسلام منه.. وما كان الرق ذنباً في تلك الفترة التاريخية لنستحي منه.. بل الصحيح أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي قنن الرق وشرعه شريعة - أي جعله نظاماً - (ولكنه من شرائع الوسائل لا الغايات). وشرع تفصيلات أحكامه، فأجاز نكاح أو جماع المتزوجة إذا ما استُرقت فأخرجها من المُحرمات وينفسخ عقدها تلقائياً بذلك، وذلك في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ (24) سورة النساء»، وقد روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن سبب نزول هذه الآية هو تَحَرُج الصحابة من الاستمتاع بسبايا أوطاس فأحلها القرآن (أي المتزوجات منهن). كما أثبتت الشريعة توارث الرق، فابن الرقيق يصير رقيقاً. بل، وغلب ذلك في كون أن أبناء الحر يُولدون رقيقاً إذا ما تزوج الحر بالأَمة، ولهذا نهى القرآن عنه إلا لحاجة والصبر أفضل فقال سبحانه: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ (25) سورة النساء. فالرجل يقضي وطره والجارية تحمل وتلد فتنقص قيمتها وتقل فائدتها وسيدها أحق بذلك، فيصبح الولد رقيقاً له. إن إنكار أن هذا مما جاءت به الشريعة هو من الإلحاد بآيات الله والتكذيب بالقرآن والسنّة، وإخفاءه كذلك مصيبة عقائدية وتطبيقية.. فلا يُستحى من شرع الله وقد علم ثبوته، فهذا شرخ عظيم في الإيمان.. وأما تطبيقياً فالمصيبة تظهر بوضوح عند قدوم الفتن كداعش وغيرها. فجهل الناس بذلك، وجهلهم والفقهاء في فهم ذلك على الوجه الصحيح يجعل عامة الناس عرضة لشبهة داعش أو شبهة التشكك في الدين. ولا يتخفى ويُخفي شريعة الله إلا مُذنب أو صاحب دين مُحرف، وما كان في الشريعة من ذنب، وأما التحريف فقد وقع في فقه المعاملات وعند الفقهاء حتى لا تكاد تجد فقهاً صحيحاً أو على مراد النصوص. والتعذُّر بأعذار ساذجة كحماية النساء من الجوع والمضيعة باسترقاقهن هو من بعض ما أسس الاستخفاف بعقول المسلمين ونفوسهم.. والتحريف بحجة الكفارات هو شاهد على ضعف حجة فقهاء المسلمين، ودليل على عدم أثر نفع الوعظ. فكم من عتيق أو عتيقة مقابل استرقاق جديد للآلاف أو تابع بعشرات الألوف بالولادة. فالإسلام لم يخفف من الرق ولم يجفف منابعه إلا منع استرقاق المولود حراً بلا حرب. ونهى عن قتله ومعاملته كالحيوان، ومن تفريق الرضيع عن أمه. كما منع مصارعة القتل في حين كان الرومان والفرس يسترقون الأحرار ويقيمون بينهم المصارعات القاتلة حتى يُقتل الجميع. وقد جاء الإسلام في وقت كان الرق فيه ضرورة حياتية في الحرب والسلم والله أعلم بعباده، وجعله سبحانه بعلمه للغيب من الوسائل التي تزول أحكامها بزوال أسبابها. وعدم التمييز بين الوسائل والغايات في الأحكام حسب الأصول العقلية التي لا تخفى على العوام فضلاً عن غيرهم، واستئثار الفقهاء بتحليل ما شاؤوا وتحريم ما يشاؤون هو الذي فتح أبواب الفتن من بعد العهد الأول وأظهر الطوائف والبدع، فكل بلد تَبَعٌ لشيخه الذي غلب. إن عدم التحدث بموضوعية وصدق وعقل ومنطق عن الرق والاسترقاق في الإسلام وتبيين حال الناس قديماً وحديثاً والتفريق بين الوسائل والغايات سيظهر حججاً قوية لداعش ولغيرها أبعد من استحلال الرق والقتل والسلب والنهب. ودعوى الالتزام بالكتاب والسنّة هي دعوى كل المدارس والمذاهب الإسلامية، الغُلاة منهم والمفرطون. والمتعاطفون مع داعش من الفقهاء الصامتون وغيرهم من الناس يقفون حيارى أمام مزاعم داعش بالالتزام بالنصوص الشرعية، ولا تنفع معهم التلفيقات العقلية وحجة مواكبة العصر ولا المزاجية وعدم الانضباطية في اعتماد قاعدة أصولية هنا وتركها. والعقل الملتزم بالنصوص الشرعية لا يفهم إلا بأن تخاطبه بلغته وبطريقة فهمه العقلية للشريعة. فاستدلالهم بالنصوص هو استدلال قوي مُفحم عليهم يفنّد حججهم ويُذهب وساوسهم للأبد، ولكن أين الفقيه اليوم؟ وما من فقيه والتقليد هو المنهج، وخوف الفقهاء على مصالحهم الخاصة إذا فقدوا شعبيتهم عند العامة إذا انفرد أحدهم بالحق المؤصل بالنص الشرعي ولكنه مخالف للفهم الخاطئ السائد عند العامة من الناس الذين فهموه من فقهائهم، فالله المستعان.