العنوان قد يبدو سؤالاً غريباً لأول وهلة، لكنه في الحقيقة سؤال مهم! أسأل مرة أخرى: هل تستطيع التركيز؟ هذا من الأسئلة المهمة في هذا العصر؛ فقد انتشرت الكثير من الأشياء التي تشتت المخ، وتبعثر الأفكار، وتقاطعك، وتجعل من التركيز مهمة عسيرة في حد ذاتها، فضلاً عن المهام التي تحتاج أصلاً إلى أن تركز عليها. هذه من ضرائب التقنية الحديثة والحياة المعاصرة.. ضريبة ندفع ثمنها باستمرار من وقتنا وجهدنا بل أحياناً حياتنا! أول هذه الملهيات هو التلفاز، وتحديداً أقصد تأثير التلفاز علينا لو شاهدناه ونحن صغار. لمّا درس العلماء في أمريكا آثار التلفاز على الأطفال - ولاسيما أن التلفاز شيء أساسي في حياة هذا الشعب منذ الطفولة - وجدوا أن الأطفال الذين يشاهدون التلفاز باستمرار (حتى وهم صغارٌ يَحْبون) تدهورت قدرتهم على التركيز لما كبروا، واستمر هذا التركيز الضعيف سنين طويلة حتى أن بعض الجامعات غيّرت مناهجها؛ لتصبح أكثر غباءً! في أيامنا هذه لا شك أن الهاتف المتنقل هو أبو الملهيات والمقاطِعات (بكسر الطاء)، فلم يظل الهاتف مجرد وسيلة للتواصل الصوتي كما كان بل الآن صار حاسوباً نكتب فيه البريد الإلكتروني وآلة حاسبة وكراسة وتقويماً ومتصفح إنترنت ومصدر أخبار.. بل حتى تلفازاً! من يملك منكم هاتفاً فسيلاحظ أنه لم يعد كما كان من ناحية التركيز والذهن الصافي، ففي السابق كان أسهل علينا أن نقرأ كتاباً أو نسامر قريباً أو نكتب شيئاً، ونظل في هذا ساعات متواصلة، أما اليوم فلا يكاد المرء يستطيع أن يفعل شيئاً بتركيزٍ صافٍ إلا ويفتح هاتفه كل دقائق عدة ليرى إن كان فلان أرسل رسالة أو ما حدث من تطورات في العالم أو إذا ما استقبل إيميلاً! كثرة هذه التشتيتات مشكلة، فلم يعد الشخص يستطيع أن يركز بصفاء على مهمة معينة كما كان يفعل، وصارت هذه المقاطِعات تؤثر سلباً على المهام التي نريد إنجازها، ولعل أخطرها مهمة القيادة، وهذه مشكلة حقيقية في بلدنا الذي تكثر فيه الحوادث المرورية حتى صارت شيئاً شائعاً، فقد وجد عالم المخ جيمس مدينا أن الشخص الذي يُقاطَع أثناء عمله تطول مدة عمله بنسبة 50 %، بل تزداد أخطاؤه أيضاً 50 %، فمثلاً لو كنت تعمل شيئاً معيناً - مثل قيادة سيارة - فأنت لحظتها منشغل بمهمة تحتاج لتركيز ذهني، فإذا قاطع شيء ما هذه المهمة فإن احتمالية حادث مروري تزداد كثيراً، فالذي يكلم بالهاتف المتنقل وهو يقود سيحتاج لنصف ثانية إضافية؛ ليدرك ما حصل فيما لو حدث شيء مفاجئ (كسيارة تتوقف فجأة أمامك)، وأحياناً كثيرة نصف الثانية هذه هي الفيصل بين أن تصطدم وأن تنجو. وليس الهاتف فقط بل، أي شيء يقاطع تركيزك في القيادة يسري عليه الأمر نفسه، كالأكل، أو كأن تبطئ لمشاهدة حادث مروري.. بل إن دراسة أظهرت أن مجرد مد يدك إلى جيبك لتأخذ منها شيئاً يضاعف فرص الحوادث 9 مرات. هذا ما قصدتُه لما قلت إن المُلهيات والمقاطِعات قد تكلّف المرء حياته، فلنحرص أن نحرر عقولنا من قبضة الملهيات؛ لنستطيع القراءة أو السمر أو العمل بتركيز ومتعة وكفاءة، وإن كان هذا صعباً فعلى الأقل لا بد من إبعاد هذه المقاطِعات أثناء الأعمال المهمة كالقيادة.