عندما كنا صغاراً كنا نقول: ماذا سيكون في المستقبل؟ هذا من تفكير البشر كلهم، فالفضول دائماً يخالط العقل عن المجهول، خاصة المستقبل وما سيكون، وتشتعل مخيلات الأطفال بشتى الاختراعات والأشياء التي يتوقعون أن تحدث في المستقبل، فليس من المستغرب مثلاً أن تسمع طفلاً يتمنى أن يعيش في المستقبل حيث لا توجد مدارس وإنما أسلاك توصل بالرأس تعطيك كل دروس اليوم! وقد تسمع أحدهم يتذمّر من إجبار أهله له أن يأكل الأكل النافع كالخضار ويتمنى في المستقبل أن تكفي حبة صغيرة يبتلعها وتعطيه الفيتامينات والحديد وكل ما يحتاجه الجسم. «أتمنى أن أعيش في المستقبل حيث...»، هذه عبارة شائعة على معظم الألسن، وبعد كلمة «حيث» ضع ما يعجبك، فقد تتمنى أن تعيش في المستقبل حيث تطير السيارات، أو حيث تكون الأرصفة متحركة، أو حيث تُرسل رجلاً آلياً يقضي كل حاجاتك من تسوّق وتجديد وثائق بل حتى أن يذهب للعمل مكانك! المستقبل .. يا لها من كلمة زاخرة بالأمل .. بالنشوة .. بالانبهار. لكن لا داعي لهذا. هناك كلمة دارجة في بعض الشعوب وهي عبارة: المستقبل هو الآن. تعني هذه العبارة أن تخيلات البشر في السابق قد تحققت اليوم، وأننا نعيش اليوم ثورة تقنية علمية لا نظير لها، ولم يمر على البشر منذ خلقِ آدم أي عصر يماثل الانفجار المدهش في العلم والتطور الذي نراه بأعيننا اليوم، فمن كان يتصور أن البشر سيقدرون على تسجيل مشاهد من الحياة على أشرطة أو أقراص صغيرة؟ أو أن يتكلم رجل في مكان فيسمع كلامه شخص آخر في النصف الآخر من الكوكب؟ أو أن نركب مركبة فيها كراسي وثيرة وهواء مكيف تأخذنا بسرعة فائقة إلى وجهتنا البعيدة (السيارة)؟ واسحب من هذا الحبل حتى ترضى، فلا آخر له، فتستطيع أن تُدهَش من الطائرة، تلك الأسطوانة المعدنية السابحة في الهواء، أو الهاتف المتنقل، تلك القُطيعة الصغيرة التي تستطيع بها اليوم فعل الأفاعيل، والكثير جداً غير ذلك. لكن هل هذا هو الأمثل؟ أظن الأولين لو علموا بما أحدثته التقنية اليوم لما تمنّوا أن يعيشوا في زمننا. نعم، اخترعنا السيارة، لكن بالمقابل صرنا أقل حركة، بدلاً من المشي وركوب الدواب وما في ذلك من حركة كثيرة نافعة. اخترعنا التلفاز والحاسب وصرنا نجلس (إما اضطراراً أو تعاجزاً) ساعات وساعات حتى ضَعفت صحتنا ومرضت أجسادنا من كثرة الجلوس. اخترعنا الهاتف فصارت مكالمة للأجداد أو الأعمام والخوال تكفي ولا حاجة للزيارة. سرّعنا كل شيء فتسارع مع ذلك قلقنا وتوترنا، وصار الضغط النفسي وباءً شاملاً أمطر العذاب والدمار على البشرية. ماذا استفدنا من هذه التقنية بعد أن استفحلت فينا أمراض القلق والاكتئاب؟ وبماذا تُعزّينا هواتفنا المدهشة بعد أن انقطعنا عن الأقارب والأصدقاء وانشغلنا عنهم بالجمادات؟ وكيف ستعوّضُنا الأطعمة اللذيذة بعد أن سَلَبتنا صحتنا وملأت أجسامنا بالسكاكر القاتلة والكيميائيات الضارة؟ المزيد من التقنية = المزيد من المرض. هذه إحدى معادلات عصرنا الحديث فيما يبدو، والغبطة للأولين ومعيشتهم البسيطة الخالية من بروزاك و زاناكس وأدوية الكولسترول والضغط والسكر.