انطلقت فعاليات مهرجان البوضة في إيطاليا، أو كما يسميه الإيطاليون مهرجان المتعة، منذ شهر أبريل الماضي وتستمر إلى غاية شهر أغسطس القادم، فقد عرفت هذه التظاهرة النور منذ سنوات في مدينة فلورنسا بمبادرة من المستثمر الإيطالي غابريالي بولي، رئيس جمعية المثلجات التقليدية بالمدينة، وقد انطلق المهرجان احتفاء بهذه الأكلة الرائجة صيفاً وكذلك تخليداً لذكرى مطور «الجيلاتو»، الإيطالي روجيرو، الذي اشتهر بابتكاره أول أنواع البوضة المجمدة والبسيطة، المتكونة من الماء والسكر والليمون، والتي راجت حينها في فرنسا على إثر اقتران الدوقة كاترينا دي ميديشي بالدوق أنريكو دوليان وانتقالها من فلورنسا إلى فرنسا، حيث اصطحبت الدوقة طباخها روجيرو معها، الذي أبهر الفرنسيين وأثار حفيظة أشهر صانعي الحلويات بوصفته الجديدة، بيْد أنّ النقلة البارزة في صناعة البوضة كانت على يد برناردو بون تالنتي الذي حقق نجاحاً باهراً بابتكار «الكريمة الفلورنسية»، وهي عبارة عن مزيج من العسل والسكر مضاف إليهما الحليب. من الشربات إلى السوربيتو لكن يذهب خبراء الأكل والمعنيون بتطورات فن الطبخ والمشروبات إلى أنّ البوضة الإيطالية تعود في أصولها إلى جذور عربية قديمة، وردت مع أهالي بلاد المغرب الذين استوطنوا صقلية بعد فتحها، ومن ثمة انتشرت في كافة أرجاء إيطاليا. حيث جلب المستوطنون العرب «الشربات» إلى إيطاليا على إثر مقدمهم إلى جزيرة صقلية، وهي عبارة عن مزيج من الماء والسكر ومسحوق الفواكه المجمدة، لتستهلك عند اشتداد القيظ ولا سيما في صقلية الشبيهة المناخ بتونس. هذا وقد تحوّلت مفردة «شربات» العربية في اللغة الإيطالية إلى سوربيتو «sorbetto»، والتي تعني البوضة التقليدية الصنع. والجدير بالذكر أن الرحالة العربي ابن حوقل قد أورد في مؤلفه «صورة الأرض» حديثاً عن صنع السوربيتو، فبموجب وفرة قصب السكر في صقلية، كان المسلمون يقومون بعصره لاستخلاص مائه بقصد تصنيعه وتخزينه كمشروبات صيفية، ومن ثمة بدأت فكرة «الشربات» تنتشر على أساس كونها حلويات مجمدة تقدم في المناسبات الراقية .. شاعت أولاً في نابولي ثم تسربت إلى الشمال، ومن ثمة راجت في كافة أرجاء أوروبا على يد روجيرو وبون أيوتي وكلاهما من مدينة فلورنسا. رواج للمثلجات رغم الأزمة وأثناء متابعتنا لفعاليات مهرجان البوضة، أفادنا رئيس جمعية المثلجات التقليدية بفلورنسا قائلاً: هذا المهرجان هو حدث وطني ودولي، بات ينطلق سنوياً من مدينة فلورنسا باعتبارها أولى المدن التي نبعت منها فكرة المهرجان، لتتوالى إقامة الأنشطة التجارية والاحتفالات في عشر مدن، وهي ليتشي وفياريجيو وباليرمو ونابولي وفيرونا وتورينو وروما وميلانو، ثم يتحول المهرجان خارج إيطاليا نحو كَانْ وبرشلونة وباريس وموناكو وأمستردام، وذلك في نطاق الترويج للجيلاتو الإيطالي. وأخبرنا المستثمر غابريالي رومانو بأنّ انطلاق المهرجان من هذه المدينة هو وفاء وتكريم لروح مطوّر المثلجات العالمية برناردو بوون تالنتي، المهندس والفنان والطباخ الذي ابتدع الكريمة المجمدة التي يطلق عليها اسم «الكريمة الفلورنسية». وأضاف غابريالي قائلاً: لنا الحق أن نفتحر ونروّج لهذا النجاح الذي تخطى حدود وطننا وأصبح من الماركات الإيطالية المعروفة عالمياً. حيث يرافق مَخبر بون أيوتي، وهو مَخبر متنقل، كافة محطات المهرجان في الداخل والخارج، بقصد التعريف بالتراث العريق بين متناولي البوضة العالية الجودة والمتميزة، وليتمكن عشاق المبردات من تذوّقها والتعرف على خصوصيتها بلمسة حرفيي مدينة فلورنسا جوهرة إيطاليا وعاصمة البوضة. والملاحظ في الأجواء الاقتصادية العامة في إيطاليا، أنّ الأزمة قد مست العديد من القطاعات في الصناعة التقليدية إلا صناعة البوضة، فالإيطالي مهووس بتناول المثلجات صيفاً وشتاءً، وعلى مدار السنة تقريباً، بشكل لا يضاهيه أحد من بلد آخر، وكما يقول المثل السائد في روما «على بطنه يبيع وطنه». علماً أنّ الصناعة التقليدية للبوضة تغطي 55 بالمائة من المنتوج العام، حيث تنبت محلات البوضة الصغيرة كالفطر، ولا سيما تلك التي تصنع وتبيع البوضة التقليدية والطازجة. وقد صاحب مهرجان البوضة المتنقل الترويج لعديد الأنواع، التي تنافست في إنتاجها شركات عدة، مثل ألجيدا وموتا وسامونتانا وسانسون وماغنوم وموتاريلو وسانسون وكورنيتو، جاءت بنكهات مختلفة ومتنوعة وامتزجت فيها الفواكه والغلال، وقد غلب التركيز هذا العام على اعتماد المكونات الطبيعية، وتجنب ما أمكن المواد المصنّعة المضافة. ذكرت لنا فيديريكا إسبوزيتو، إحدى المروجات للبوضة، أنها تمكنت من صنع بوضة بنكهة رحيق الأزهار وبعض الخضروات والفواكه، كالخيار والتين وزيت الزيتون وقليل من البهارات، وقد أعجب هذا الابتكار العديد من زوار المهرجان، أطلقت عليها اسم ابنتها لاورا. وأما المايسترو سرجيو دوندولي أصيل مدينة البندقية، وأحد المواهب المعروفة في خلطة البوضة، ذكر لنا أنه اختار بعض المواد الطبيعية هذا العام مثل اللوز والعسل وقشور البرتقال، مع إضافة القليل من الزعفران وهي على حد قوله بوضة تقليدية عريقة تستهوي مذاق السيدة الأمريكية الأولى ميشال أوباما التي زارت محله. ولم نفوت الفرصة لاقتراح استخدام التمر في البوضة على المايسترو سرجيو، فأعرب لنا عن أهمية الفكرة والتي سيوليها انتباهاً في المهرجانات القادمة إن تيسر التحول إلى إحدى البلدان العربية، وسيطلق عليها اسم بوضة الصحراء. ومن جانب آخر أضاف كلاوديو بيكا، الكاتب العام لجمعية البوضة في العاصمة روما، أن البوضة الإيطالية التقليدية استطاعت أن تحتل موضعاً متقدماً بين الماركات التجارية الإيطالية، وهي في تطور حثيث من حيث تزايد أعداد المستهلكين سواء كانوا إيطاليين أو أجانب. ويعتبر كلاوديو بيكا صاحب أشهر محلات بيع البوضة التقليدية في روما، ويعد محلّه قبلة لعديد الساسة والفنانين والرياضيين المولعين بتناول المثلجات، مثل الكوميدي كارلو فيردوني والفنان لوكا برباريسك والممثلة سيمونا ايتسو. ذكر لنا كلاوديو بيكا أن رئيس الجمهورية الإيطالية الأسبق فرانشيسكو كوسيغا كان حريصاً على اقتناء معلبات متنوعة من المثلجات من محله لتناولها مع ضيوفه وأصدقائه. كأس العالم بنكهة الجيلاتو ولم تغب عن تظاهرة البوضة أجواء كأس العالم، حيث قام بعض المشاركين من صنّاع المثلجات بالتعبير عن بهجتهم لمشاركة إيطاليا في هذا العرس الكروي، وتشجيعاً لفريق الزرق ابتدع المايسترو ماورو كوبَ مثلجات على هيئة كأس العالم، يحمل ألوان الفريق الوطني الإيطالي. توافد العديد من الزوار على المعرض ولا سيما السياح الأجانب الذين قدموا بكثافة لهذا المهرجان واختاروا تذوق البوضة بنكهة الفريق الوطني الإيطالي والتي أطلق عليها اسم بوضة الزُّرق، وقد كان النصيب الأكبر لمقتنيها من الإيطاليين، كما حضرت كرة القدم التي تحمل ألوان بلد السامبا، مجسَّدةً في بوضة دائرية الشكل تحمل علم البرازيل أثارت إعجاب الصغار والكبار. وأمام طابور طويل توقفنا لتناول ما تيسر من البوضة، طلبنا من صاحبة المحل أن تمزج لنا اللون الأبيض والأخضر وقليلاً من بوضة الفراولا على شاكلة نجم وهلال، وهي ألوان علم الجزائر البلد العربي الوحيد المشارك في تظاهرة كأس العالم، معبرين بذلك عن دعمنا لهذا الفريق ومتمنين له التوفيق والنجاح بعون الله.