على عكس التوقّعات التي شاعت قبل أسابيع حول احتمال أن يفتتح الدورة ال66 لمهرجان البندقية (فينيسيا) عمل للمخرج والنجم الهوليوودي الكبير كلينت إيستوود أو المخرج تيرينس ماليك، أعلنت إدارة المهرجان أن شريط «باغاريّا» للمخرج الأوسكاري جوزيبي تورناتوري هو الذي سيفتتح المهرجان في الثاني من ايلول (سبتمبر) المقبل ويستمر حتى الثاني عشر من الشهر نفسه. أعلن ذلك المدير الفني للمهرجان ماركو موللر مشيراً الى أن الشريط سيشترك في المسابقة الرسمية في المهرجان. وسيُعرض في الصالة الكبرى في أول عرض عالمي له ليلة الافتتاح. ويكون بذلك الشريط الإيطالي الأول بعد عشرين عاماً الذي يُفتتح به مهرجان البندقية. ويأتي انجاز «باغاريّا» باعتباره جهداً إنتاجياً كبيراً في السينما الإيطالية منذ أعوام عدة... وهو الذي كان مُنتظراً في الدورة الخامسة والستين لمهرجان «كان» السينمائي الدولي، إلاّ أن العمليات الأخيرة لم تُنجز في الوقت المناسب ليرافق الفيلم شريط «الانتصار» لماركو بيلّوكيو والذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» وحقق حضوراً جداً وتأكيداً لطاقة ممثلة شابة هي جوفانّا ميتزوجورنو. وعلى العكس من أعمال جوزيبي تورناتوري السابقة، والتي اعتمدت في الغالب على عدد ضئيل من الممثلين، فإن الشريط الجديد كورالي ويحفل بعدد كبير من الممثلين الإيطاليين، غالبيتهم من الجنوب، إضافة إلى النجمة الإسبانية آنجيلا مولينا. وبلغ عدد الممثلين الذين استعان بم تورناتوري 203 ممثلين صقليين وغير صقلّي، إضافة إلى ما يربو على عشرين ألفاً من الكومبارس. يروي الفيلم قصة عائلة نتعرّف من خلال الأحداث التي تمرّ بها الى ثلاثة أجيال من أهل تلك المدينة التي يحمل عنوان الفيلم اسمها. وهذا الفيلم أكثر من كونه فيلماً ملحمياً، هو عمل كوميدي تتناوب فيه لحظات الفرح والمتعة مع المرارة. بالضبط كما كان يحدث في الكوميديات الإيطالية القديمة. من أجل تصوير هذا الفيلم حوّل تورناتوري شوارع «باغاريّا»، الشمال أفريقية، إلى مسرح ناطق بصورة مدينته وحمل معه إليها أثاثاً قديماً ومصابيح أصلية من ذلك التاريخ، وسيارات قديمة «لأن كل شيء كان ينبغي أن يكون» كما يتذكّر هو مدينته الأصلية. مسرح يدفع إلى خشبته بالتناوب شخصياته الكثيرة ليروي مسار الأحداث التي مرّت بها، ليس «باغاريّا» وحدها، بل جزيرة «صقليّة» بأسرها. ولم يستند المخرج في بناء كل ذلك الى ذاكرته فحسب ويقول: «هناك شرطي مرور وهو صديق عزيز لي للغاية قام في الشهور الماضية بزيارة عائلات المدينة وسار في شوارعها للبحث عن صور قديمة وعن مؤشرات تاريخية تعود إلى زمن أحداث الفيلم. وقد بنينا كل شيء على أساس ما تجمّع لدينا من مشاهد. التوثيق الفوتوغرافي الذي يغطّي نحو قرن كامل من الزمن». وفيما يُنتظر أن تشهد الدورة المقبلة من مهرجان البندقية حضوراً عربياً لا بأس به، فإن في الإمكان اعتبار شريط تورناتوري عربياً في شكل من الأشكال. فمنتجه تونسي هو طارق بن عمار والفيلم صوّر في غالبه في تونس وشارك في إنجازه عدد كبير من الفنيين من ذلك البلد وأعادت تونس، بأجوائها وطقسها وألوانها ووجوه ناسها، إلى الواجهة صورة جزيرة صقليّة في ثلاثينات القرن الماضي. الفيلم أنجز بالتعاون مع شركة «ميدوزا فيلم». وقد صاغ موسيقاه الموسيقي العملاق إينيو مورّيكوني. من صقلية الى تونس ويقول تورناتوري عن سبب اختيار تونس كموقع للتصوير: «كنّا نبحث عن مكان نعيد فيه بناء «باغاريّا». عندها اقترح عليّ المنتج طارق بن عمّار، وهو شخص عملي وذكي، أن نجرّب تونس القريبة من «صقليّة». الطقس في تونس، وعلى رغم حرارته المرتفعة، قريب جداً من طقس صقليّة وكذا هي النباتات والوجوه، فهي شبيهة بما في «صقليّة». وفي تونس عثرت على الوجوه التي كنّا نحتاجها لأحداث الفيلم التي تدور ما بين أعوام الثلاثينات والستينات من القرن الماضي. كل هذا كان متوافراً في تونس، لذا بات طبيعياً وسهلاً بالنسبة الينا إعادة بناء «باغاريّا» هناك». بُنِيَتْ مشاهد المدينة بأكملها على بعد عشرين كيلومتراً من تونس العاصمة وزادت مساحتها على عشرين مرة عن مساحة ديكورات فيلم «عصابات نيويورك» الذي أنجزه مارتين سكورسيزي في «تشينيتشيتّا - مدينة السينما» في روما. استغرقت عمليات التصوير 25 اسبوعاً من العمل وشارك فيه فريق مكوّن من 220 فنيّاً وتقنيّاً وأنجز الفيلم بموازنة ضخمة بلغت 20 مليون يورو واستخدم فيه أكثر من عشرين ألف كومبارس. وتُعطي هذه الأرقام الفيلم مواصفات الأفلام الكبيرة. واليوم بعد منعطف صغير جرّب فيه المخرج الشكل البوليسي من خلال فيلمه الأخير «المجهولة» يعود جوزيبي تورناتوري إلى رواية جزيرته صقليّة في فيلمه الكبير وطموح «باغاريّا». يقول تورناتوري عن فيلمه إنه: «إضافة إلى علاقته بمسقط رأسي، فإن عنوان الفيلم يمثّل نغماً قديماً وتعويذة سحرية ومفتاحاً يُقال انه الوحيد القادر على فتح قفل صندوق عتيق أُخفيَ فيه كنه فيلمي الأكثر شخصيّة. إنها قصة ممتعة وكئيبة في آن تعرض قصص حب كبرى وأحلاماً غامرة. إنها أسطورة مزدحمة بالأبطال. غير أن «باغاريّا»، إضافة لذلك، إسم لمدينة صقليّة تدور فيها حيوات السكان على طول الشارع الرئيس فيها. طول ذلك الشارع لا يزيد عن بضع مئات من الأمتار، لكن إذا ما سرت فيه جيئة وذهاباً لسنين طويلة، فإن في إمكانك أن تتعلّم ما ليس في إمكان العالم بأسره تعليمك إيّاه». وكان جوزيبي تورناتوري حضر مهرجان البندقية عام 1995 بعملين أولهما شريطه الرائع «رجل النجوم» من بطولة النجم الإيطالي الشهير سيرجيو كاستيلّيتو، ثم شارك في عضوية لجنة التحكيم الدولية للمهرجان في عام 1993 وكان رئيس اللجنة آنذاك المخرج بيتر وير. ولا بد من أن نذكر هنا أن تورناتوري انطلق أصلاً في عمله السينمائي من صقليّة. فهو بعد أن أخرج في سني شبابه الأولى مسرحيات للويجي بيرانديلّو ولكتّاب صقلّيين آخرين، انتقل إلى عالم التصوير الفوتوغرافي ونشرت له المجلات المتخصّصة عدداً كبيراً من الأعمال الوثائقية. وحين بدأ إنجازه السينمائي انطلق من الوثائقي وركّز منذ اللحظة الأولى على قصص الناس الحقيقيين، فكان وثائقيّه الأول بعنوان «العربة» عن العربة التقليدية الصقليّة. ومن ثمّ أنجز عام 1982 وثائقي «الأقليات الإثنية في صقليّة». وفي عام 1984 ساهم مع المخرج حوزيبّي فيرّارا في إنجاز فيلم «مئة يوم في باليرمو» وأنجز بعد ذلك بوقت قصير شريطه الطويل الأول «إل كامورّيستا» الذي أدى بطولته النجم الأميركي بين غازّرا. غير أن الشهرة العالمية جاءته بعد إنجاز فيلم «سينما براديسو» الذي حقق به جائزة الأوسكار عام 1988 بعد أن كان فاز قبل بضعة شهور عن الفيلم ذاته ب «الجائزة الكبرى الخاصة للجنة التحكيم» في مهرجان «كان» وبجائزة «الغولدن غلوب». فاز تورناتوري بالكثير من الجوائز وترشّح عمله الأخير «المجهولة» لتمثيل إيطاليا في ترشيحات الاوسكار في هذه السنة. وعمل مع عدد كبير من النجوم الإيطاليين والعالميين من بينهم مارتشيلّو ماسترويانّي وجيرار ديبارديه ورومان بولانسكي ومونيكا بيلّوتشي التي أدت دورها المميّز في فيلم «مالينا» الذي كان ترشّح عام 2000 لأوسكار أفضل موسيقى أصليّة وأفضل تصوير. باغاريّا أما مدينة باغاريّا الأصلية فهي مدينة ساحلية إيطالية في جزيرة صقلية، ضمن مقاطعة باليرمو، أسست في القرن السابع عشر من جانب أسرة برانتشيفورتي، وكانوا أمراء بلدة بوتيرا «بو طيرة» حيث استقر بها جوزيبي برانتشيفورتي أمير بوتيرا ونائب ملك صقلية في 1658 بعد تقاعده، وبنى قصراً هناك. وفي عام 1769 قام أحد أحفاد الأمير بإعادة تصميم القرية السابقة محولاً إياها إلى بلدة باروكية جميلة، وأصبحت متنزهاً لارستقراطية باليرمو، ثم اشتهرت بفضل القصور والفيلات التي بنيت فيها خلال القرن الثامن عشر على الطراز الباروكي الصقلي. أصل اسمها فينيقي ويرى المؤرخون أن اسمها الحالي ولد من التسمية العربية للمنطقة ويُعتقد أنه كان واحداً من إسمين، إما «بحرية» او «باب الغرب». ويعتمد اقتصاد المدينة على زراعة الحمضيات ويبلغ عدد سكانها حالياً 53.381 نسمة. وإضافة إلى كونها مسقط رأس المخرج تورناتوري فقد شهدت باغاريا ميلاد فنانين إيطاليين كبيرين في القرن العشرين: ريناتو غوتوزو ونينو غارّايو.