ما يزيد على ثمانية عقود عاشتها الراحلة خالتي الغالية أم صالح نورة بنت حنيشل الحنيشل.. ابنة حنيشل العبد لله الحنيشل أشهر أصحاب المكتبات في الرياض قبل ما يزيد على ستين عاماً، وإن كانت من نسل طلاب علم وكتّاب أشتهر تدوينهم للوثائق والمبايعات والوصايا في عصر قل فيه الكتبة، حتى لا تجد أسرة من أسر مدينة بريدة المحتفظة ببعض تاريخها إلا وتجد خط أحد أجدادها، عبدالله وعبدالعزيز وعبد الرحمن، بل ووالدها حنيشل في وصاياهم ومكاتباتهم. لكنها عاشت أمية كما كان أغلب نساء زمانها، لكنها كانت مدرسة في الصبر والاحتساب، عاشت تقلبات الحياة وقسوة الزمان ابتليت بموت كثير من أبنائها صغاراً وكباراً واحتسبتهم عند الله. تكالبت عليها الأمراض والآلام حتى لازمت سريرها منذ أكثر من عشرين سنة، ومع ذلك نجدها تصوم في شدة الحر وتقوم الليل مع ألم المرض وصعوبة القيام لم تتضجر من حال أو تشكو لغير خالقها. كانت رغم هذه الآلام جُل اهتمامها ينصب على المحتاج ممن حولها حتى أشغلها ذلك عن نفسِها، كلما شاهدتها وتذكرت آلامها ومصابها في نفسها وولدها ومكابدتها لمشاق الحياة ظننت أن الشاعر والأديب اللواء محمود شيث خطاب عناها في رثائه حينما قال: أجهدت نفسك فاستريحي قليلاً قد كان عبئك في الحياة ثقيلاً نزلت عليك مصائب الدنيا ولو نزلت على جبل لخار مهيلا وجد القنوط إلى الرجال سبيله وإليك لم يجد القنوط سبيلا ولرب فرد في سمو فعاله وعلوه خلقاً يعادل جيلاً أما مسيرتي معها فقد بدأت منذ الطفولة حيث كانت الأم حال فقد الأم وكانت نعم الخالة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «الخالة كالأم»، واستمرت صلتي بها لا يقطعني عنها سوى الأسفار التي أشتاق إليها فيها كاشتياقي إلى أولادي، حدثتني كثيراً عن طفولتها ونشأتها وأسرتها وكنت أستزيدها كلما لمست منها صحة ونشاطاً لما لهذه الأحاديث من مكانة في نفسي ولما أجده من سرورها وارتياحها لحديث الماضي الجميل عندها رغم قسوته لكنه يحمل ذكريات الأهل والأحبة الذين سبقوها إلى الدار الآخرة. كنت أظن أني استطيع كتابة مذكرات عنها لكن وجدت القلم يستعصي حينما أمسكته لأكتب عنها كلمات وربما جف القلم من ألم الفقد لكني حسبي أن أعبر عن بعض ما في نفسي نحو الراحلة غفر الله لها وجمعنا بها في جنات النعيم. ورغم ثقتنا برحمة الله وأن ما عند الله تعالى خيراً لها مما عندنا، وأنها رحلت إلى رب رحيم غفور وسعت رحمته كل شيء، ورغم شفقتنا عليها ورحمتنا بها وتقطع قلوبنا على ما كانت تقاسيه من الآلام أيام الحياة وشعورنا بمدى شدتها ومكابدتها لذلك، إلا أن الفراق عسير والمصاب جلل. لا نملك أمامه إلا الاستسلام والرضا مع الدعاء لها بالرحمة والمغفرة وأن يعوضها الله تعالى خيراً ويجزيها على ما صبرت واحتسبت خير ما يجزى عباده الصابرين {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.