الموافقة السامية على تخصيص 80 مليار ريال خلال الخمس سنوات القادمة لدعم مشروع تطوير التعليم، تظهر رغبة حقيقية من قِبل الدولة لتصحيح مسار التعليم في بلادنا، حيث لا يخفى على أحد أنه لا يمكن أن ينهض بلدٌ أو أن يكون له دورٌ رائد في عالم اليوم دون أن يمتلك نظاماً تعليمياً عالي الكفاءة. التدني الشديد في مدخلات الجامعات الذي أجبرها على تنفيذ ما يُسمى بالسنة التحضيرية في محاولة لمعالجة التدني الشديد في مستوى تحصيل خريجي التعليم العام، يؤكد الوضع الكارثي لتعليمنا العام وأنه أصبح شكلياً دون محتوى حقيقي، فمعظم خريجي هذا النظام يفتقرون إلى أبسط المعارف التي يفترض أنهم تعلموها في المرحلة الدنيا من الابتدائية لا أن يكونوا قد أنهوا 12 عاماً من التعليم العام. والواقع أن هناك إشكالات حقيقية يواجهها نظامنا التعليمي لا يمكن أن يكون المال وحده كفيلاً بحلها، ويتطلب التعامل معها تغييراً جذرياً في البيئة التعليمية والإدارية في بلادنا إن كنا نرغب فعلاً في تصحيح مسار نظامنا التعليمي. هذه الإشكالات تحدثت عنها في مقالات سابقة، وأجد أن من المناسب هنا التذكير بها لأهميتها القصوى في أي عملية إصلاح حقيقي لنظامنا التعليمي: أولى هذه الإشكالات: حالة اللا مبالاة التي يظهرها الطلاب نحو عملية التعليم وقناعتهم الغريبة بأن فرص العمل المتاحة أمامهم مستقبلاً ليست مرتبطة على الإطلاق بحقيقة تحصيلهم العلمي وإنما مرتبطة بعلاقاتهم، أي أن المهم هو من تعرف وليس ما تعرف.. وما لم تغير هذا الانطباع من خلال وجود نظام توظيف أكثر عدالة يقوم على تقدير الكفاءة والتميز في القطاعين العام والخاص، فإن عملية تطوير التعليم لن تُؤخذ بجدية ولن تنجح في تغيير واقع التعليم. ثاني هذه الإشكاليات: أن المعلم الذي لا يرى أي رابط بين مستوى أدائه وبين وضعه الوظيفي بسبب خضوعه لكادر وظيفي يساوي تماماً بين المجد والمهمل لا يمكن أن يتطور أداؤه بإيفاده في دورة تدريبة خارجية، وستكون على الأغلب رحلة سياحية مدتها عام كامل لا تنعكس بأي شكل على مستوى أدائه مستقبلاً، في ظل عدم وجود أي دافعية لدى هذا المعلم للعمل بجدية وتميز، وبالتالي فإن الخطوة الأولى في تطوير أداء المعلمين هي إصلاح الكادر الوظيفي الذي يخضعون له. ثالثها: أن قبول الجامعات لكافة خريجي التعليم العام تقريباً يقتل إلى حد كبير روح المنافسة في التعليم العام ويضعف الحافز للتميز ويخلق حالة من اللامبالاة لدى الطلاب بحقيقة تحصيلهم العلمي، طالما أن هذا التحصيل ومهما تردى لن يعيق حصول هذا الطالب على مقعد في الجامعة إن رغب في ذلك، وبالتالي ما لم يقيد القبول في الجامعات فلن يكون هناك أي ضغط حقيقي على وحدات التعليم العام لتحسين مستوى أدائها. رابعها: أن قصر مهمة تطوير التعليم على التربويين أسهم بشكل واضح في فشلنا في تشخيص المشكلة التي يواجهها نظامنا التعليمي وحدَّ من قدرتنا على وضع الحلول المناسبة لها، فمعظم برامج الدراسات العليا في الجامعات الأمريكية والأوربية في تخصص التعليم تتصف بالسهولة الشديدة ومحدودية المتطلبات، ومع ذلك فخريجو هذه البرامج بعد عودتهم للمملكة ينظر إليهم على أنهم خبراء ومتخصصون يحملون شهادات عليا في مجال التربية والتعليم تبرر توليهم مهمة تطوير التعليم، رغم أن ما حصلوا عليه من شهادات لا تؤهلهم في الغالب للقيام بهذه المهمة. خامسها: أنه عندما أقر برنامج تطوير التعليم، وجدنا العديد من مسئولي وزارة التربية والتعليم والذين يتحملون جزءاً كبيراً من مسئولية تدهور التعليم العام ينتقلون إلى هذا البرنامج ليكونوا هم نفسهم من يعهد إليهم الآن بمهمة تشخيص مشكلات نظامنا التعليمي ووضع الحلول المناسبة، ولا يخفى عدم منطقية ووجاهة ذلك، ففاقد الشيء لا يعطيه ولو كان لديهم ما يقدمونه لقدموه أثناء عملهم في الوزارة، ووزارة التربية مطالبة بالتفكير خارج الصندوق من خلال استقطاب كفاءات متميزة من تخصصات أخرى قد تكون أقدر على وضع برامج تضمن إصلاح نظامنا التعليمي. إن التشخيص السليم لأي مشكلة هو أول وأهم خطوات الحل، وأهمية التعليم ليس فقط لحاضرنا وإنما أيضاً لمستقبل أجيالنا القادمة يحتم علينا ألا نظل ندور في دوامة التجربة والخطأ المفرغة، ونحن أكثر من أي وقت مضى مطالبون بمواجهة صادقة مع المشكلات الحقيقية التي تواجه نظامنا التعليمي.