«ياسيد ميكافيلي، ماذا قدمت للبشرية من سياسات التطهير والقتل والاستبداد والظلم والعدوان ضد الإنسان؟ وماذا لو رأيت الأمير عبدالله بن عبدالعزيز(حينما كان وليا للعهد آنذاك حفظه الله) وهو يسقط بأخلاقياته وإنسانيته نظرياتك القائمة على التفريق بين السياسة والأخلاق، والتي قتلت ملايين البشر على أيدي تلاميذك وإذا كانت الطغاة تقرأ في كتابك كل يوم قبل أن تنام فهو يقرأ في كتاب الله وسنة محمد -صلى الله عليه وسلم وسيرة العرب الشرفاء «.... استحضرت من ذاكرتي هذه السطور من مقالي المكتوب قبل أربعة عشر عاما، في يوم الثلاثاء 10-10-2000م، وكان موسوما بعنوان «هذا الأمير ياميكافيلي»، وكان في مجمله يصف زيارة خادم الحرمين الشريفين الذي جمع بين الأخلاق والسياسة في أبلغ رد على الميكافيلية الذين يفصلون بينهما لمنطقة جازان قادما لها من أوروبا وقد رفض أن يتلقى أي لقاح أو مصل قبل هبوط طائرته في مطار جازان، ليقف على مشكلة حمى الوادي المتصدع آنذاك، استحضرته وأنا أستمع للأمير متعب بن عبدالله وهو يستحضرها بتفاصيلها ويؤكد مرة أخرى في محاضرته في جامعة الملك عبدالعزيز على هامش المؤتمر العلمي الثاني أن خادم الحرمين استعجل بالذهاب إلى جدة ليقف أيضا على مشكلة كورونا وبوجوده يتم تسليط الضوء عليها كمشلة ووباء، ومن يتأمل في حال مليكنا خادم الحرمين الشريفين متعه الله بالصحة يدرك إنسانيته وصدقه وتفانيه وقدرته على الجمع بين الأخلاق والسياسة وشعوره بأن الشعب كلهم أبناؤه، وكانت قوته في صراحته وعفويته ولذلك لم يختلف عليه اثنان، وكان من توفيق الله أن يحب المليك شعبه بهذا القدر، وهو القائل :»يشهد الله تعالى أنني ما ترددت يوما في توجيه النقد الصادق لنفسي إلى حد القسوة المرهقة، كل ذلك خشية من أمانة أحملها هي قدري وهي مسؤوليتي أمام الله جل جلاله ولكن رحمته تعالى واسعة فمنها أستمد العزم على رؤية نفسي وأعماقها...»، وأكد تلك الرؤى السامية الأمير متعب بن عبد الله، حينما أقسم على أن كل مواطن سعودي يحمل جنسية هذا البلد هو عند خادم الحرمين أغلى من نفسه وأنهم مثل أبنائه... وفي مشهد آخر أعلن فيه الأمير متعب أيضا الحب (فالولد سر أبيه، ومن شابه أباه فما ظلم كما قالت العرب) ليكون أيضا قيمة إنسانية تحكم العلاقات وتشهد على إخلاص النية وصدق المسؤولية، كنت أرغب أن أصرخ في كل المصفقين دعونا نسمع من سموه هذه المشاعر التي أشهد الله عليها وهو الحب لهؤلاء الناس وهو يتحدث لمن حضروا احتفال كلية الملك سعود بن عبدالعزيز الطبية بتخريج دفعة من كوكبتها إلى سوق العمل، لأننا بحاجة إلى لغة الحب ومفردات الرحمة والعفوية التي نفتقدها في بروتوكولات الاحتفالات الرسمية، ومهما كانت عبارات تلك الخطابات منمقة فإن من يكتبها لايستحضر الشعب وهمومه وآماله وآلامه بل يستحضر المسؤول المكتوبة له، وليته وقف جهده في ملء النص بمفردات الحب والعطاء والتنازل وإن كانت قاسية النبرة بأدبوصعبة التلقي بحذر، ولكن يشفع لها نبل الغاية وبعد الرؤية، وحينئذ سيكتنف خطاباتنا الاحتفالية -وما أكثرها- الطعم والذوق واللون... صدقا... بلغ الحب الغاية في «إعلان الحب» حينما لوح سموه بورقاتهم التي كتبوها له وأبى إلا أن يتحدث من قلب المسؤول إلى قلوب لا تبحث والله إلا عن الحب، قلوب ليس هناك من يجبرها على تلك العاطفة الجياشة التي أفرزت ذلك التصفيق الذي يقطع أوصال الرسالة، ليعلن في صورة غير مزورة أن أكبر كارثة في حق أي مجتمع بشري أن يكره المسؤول فيه البشر، وفي الوقت نفسه فإن أكبر هدية من السماء للإنسان هو أن يشهد الله ذلك المسؤول على أنه يحب هؤلاء الناس، فكان متعب حاضرا وكان للحب الحقيقي طعم ونكهة ورائحة لا تخطئها القلوب السليمة والهمم العالية... صدقا... كنت على ثقة أن سموه حينما ارتجل ماقال من خلال تلك العبارات الصادقة المختصرة ونحّى الأوراق جانبا في ذلك المشهد الرهيب كان ببساطة يزيح أستار التصنع بسنان الصراحة ويكشف عن مكنون النفس بعيدا عن صورة تفنن في إخراجها المخرجون وزيّن ألوانها الرسامون وكان يجب أن يقابل بما يستحق من الوعي والانتباه والتفاعل، فليس أجمل من أن ندع هذا الأمير المسؤول المحب يعش أسمى الحالات التي لايمكن أن يجامل بها لأنها مفضوحة بالفعل على أي وجه كان، وليس سموه عن ذلك بعاجز وسيجد معه كل شريف في كل مسؤولياته، ولذلك كل من حضر كان يدرك تماما أن سموه كان ناجحا في تطبيق كل نظريات التأثير في إعلانه الحب الذي يدرك فيه العقلاء أن الزمن ليس زمن التصفيق الذي لا يجدي في مسيرة الشعوب التي أثقلتها الآلام والأوجاع والمغامرات والمجهول بعدما أصبح الوعي يشكل نسيجها ولذلك ترفض مسوغات زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون الهمجية في إعدام زوج عمته بسبب أن تصفيقه ليس كما ينبغي في مؤتمرات الحزب الحاكم إن صدقت الروايات، ونسي ذلك الزعيم أن رجال التاريخ الخالدين لا يغريهم كثرة التصفيق ولن يروق لهم وهم يستحضرون دورهم التاريخي في رسم مستقبل مشرق للأجيال التي تنتظر منهم ذلك الحب المتوج بالفعل، رجال التاريخ الذين يتنازلون لشعوبهم ويتحملون أخطاء البشر ويستوعبون المراحل مهما كانت قساوتها ويؤمنون أن الحكم والسلطة صلاحيات ومسؤوليات وليس صلاحيات، وذلك حينما ينزلون إلى واقع الإنسانية الأرحب... وفي الوجه المقابل للحب، كثير من أمراء تاريخنا البشري وطغاته وجلاديه قد وضعوا مبادئ كتاب الأمير ميكافيلي - ولو قبل تأليفه- تحت رؤوسهم ليجدوا مسوغا لمبادئ الغاية تبرر الوسيلة ليعذبوا من حولهم ومن يتعامل معهم وكل من كان قدرهم أن يعيشوا تحت ولايتهم، ولذلك لم يغفر له المثقفون إطراءه قيصر بورجيا في الفصل السابع، كما لم تغفر له الشعوب منهجته للاستبداد وإضفاء الشرعية على طمس الحب من حياة الحكام تجاه شعوبهم وعلى التفريق بين الأخلاق والسياسة وعلى شيطنة كل الناس علما أن الأصل فيهم عدم الخيانة والغدر والوفاء والولاء للدولة ومن كان غير ذلك فيمثل نفسه بشذوذه، لم تغفر له منتجاته الدكتاتورية ومن أشهرها موسوليني الذي اختار كتاب ميكافيلي في أيام تلمذته موضوعا لأطروحته التي قدمها لنيل درجة الدكتوراه وهتلر الذي وضعه بالقرب من سريره، يقرأ فيه كل ليلة قبل أن ينام، ولينين وستالين اللذان تتلمذا عليه كما قال ماكس ليرنر في مقدمة كتابه أحاديث... وقليل من أولئك الأمراء في تاريخنا البشري من وضعوا تحت رؤوسهم كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي ليعرفوا من هم ومن يكونون، ويعلنوا الحب بينهم وبين شعوبهم ويكسروا النفس البشرية الأمارة بالسوء، ويستحضروا الإنسانية في كل معاملاتهم ويكفروا بكل وسائل الدكتاتورية التي لا تليق بهم كأمراء ولا بمن حولهم كبشر، فإعلان الحب للإنسان هو خير من يقابل به المسؤول ربه وبخاصة إن أدى كل استحقاقات ذلك الحب وقد وفق الله الأمير لهذا الإعلان في وقت نحن بحاجته كعقد اجتماعي بين الناس على اختلاف مسؤولياتهم ودرجاتهم في السلم الاجتماعي وأمام أجيال المستقبل الذين يحملون المشروع ويدافعون عنه ويتفانون في ذلك، وقليل ممن يتذكر مثل ذلك الإعلان في ظل الضوء والحرس والجماهير والمواكب والمراسم والبروتوكولات... سمو الأمير متعب، هذا المسمى الذي يستحضره الناس وهم ينادون به مليكهم المحبوب خادم الحرمين الشريفين ياأبا متعب في كل حاجاتهم وهو من أحب الأسماء إليه، وعندما سمت العرب ابنها باسم متعب كان هذا تفاؤلا منها به ورسالة لكل خصومها من عدو صائل وفقر مهلك وجهل مضلل وتخلف يقعد بها عن مراتب العلياء وكأنني بك خصما متعبا لكل هذه الآفات، قديما قلت في والدك مليكنا المحبوب سيدي خادم الحرمين الشريفين ذات يوم :»مستنفرا في سبيل الله همته... وأتعب الخيل في الهيجا وما تعبا «، وأنت والله كنت هناك يا متعبولن تنتصر إلا بسيف الحق وشرف النزال وأخلاق الفرسان، وأنت والله كذلك وقادر عليه.... جلست مع سموكم الكريم ساعة بعد حفل افتتاح الجنادرية، وأذهلني الإصغاء والأدب الجم وحسن الحديث حينما كان بعض المثقفين يتحدثون عن وزارة الحرس الوطني ونجاحاتها الثقافية والأكاديمية والإعلامية والصحية والإسكانية، وحبذا لو تم تعميم منهجها في الريادة كأنموذج يجب أن يحتذى، وتحدثت عن الإنسان والوطن والإنجازات والمكتسبات التي لا نسمح بتشويهها وتشويه الإنسان السعودي الذي تستحضره القيادة دائما، والأجمل من كل ذلك أنك رددت الفضل في تميز وزارة الحرس الوطني إلى واضع لبنة كل هذا النجاح فيها سيدي خادم الحرمين الشريفين الذي كنا نتمنى أن يتوج حضوره نجاح احتفال الجنادرية وما خفف لهيب الشوق إليه إلا تشريف الأمير سلمان حفظه الله، الذي أجل زيارته لآسيا من أجلنا، ونحن نكمل طريق خادم الحرمين الذي رسمه له بعبقريته جلالة الملك المؤسس عبد العزيز رحمه الله، فسار عليه وتمثله منهجا قويما لإدارة الدولة، وأكمل المسيرة من بعده إخوانه الملوك (سعود وفيصل وخالد وفهد) رحمهم الله، فكان هذا الوطن الشامخ والكيان العالي بكل ما يحمله من رؤية وحكمة وتراكم وإرث... سمو الأمير متعب، رجل الدولة، ورجل المسؤولية، تدرك مثل بقية الأمراء الشباب تماما حاجات المرحلة القادمة واستحقاقاتها على مستوى الأسرة والدولة والشعب، وأهمية الترتيب والمراجعة وتقويم ما تم إنجازه وكيف يستمر ذلك الإنجاز بطريقة تتناسب مع أدوات العصر ومفاهيم الدولة الحديثة ومؤسساتها الوطنية، ولا أخفيك سيدي أن كثيرا من النخب تفاءلت في محاضرتك الأخيرة حينما تحدثت عن هموم المواطن السعودي وما أكثرها، ووفقت تماما بتأييد من الله حينما طمأنت ذلك المواطن المذعور أن خادم الحرمين الشريفين والد الجميع أبى إلا أن يشاركه ذلك القدر المؤلم في كورونا بالرغم من حاجته للرعاية إذ صحته لا تتحمل الفيروسات المعدية وبخاصة فيروسات هذا الوباء، ووفقت أيضا في النص على تطوير مجلس الشورى وتفعيل المشاركة الشعبية التي ستأتي في وقتها المناسب والوقوف على معاناة المواطنين مع مشكلة الإسكان معضلة الإنسان السعودي الكبرى، واستحضار دور المرأة السعودية وما تحقق لها في عهد خادم الحرمين الشريفين محكوما بضوابط الشرع الإسلامي... سمو الأمير، أنا أعلم حقيقة ما كتبت وأدرك تماما ما فيه من عري الكلمات وسعتها ودقتها وشموليتها وأعلم أيضا أن هناك من يفهم هذا الكلام على وجهه بكل نقائه ومباشرته وأن هناك من يقرأه على خلاف ذلك ولكن الحب والأمانة والوفاء لم يدعوا لي إلا أن أقول ما قلت وبالشكل الذي هو عليه {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (22) سورة الملك أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأقولها في انتهاء المقال كما يقولها خطباء الجمعة لأنهم على منبر الصدق والأمانة والمسؤولية... والله من وراء القصد..