نسمات الهواء الباردة تتخلل إلى داخل الغرفة مستأذنة الستارة بالدلوف عبر النافذة، ومعها بصيص من نور القمر المشع في هذه الليلة المقمرة.. دقات الساعة مسموعة في هذا الهدوء، حيث يجري عقربها النحيل على عجل، في حين حط أطولها رحاله على العاشرة، بينما أصغرها قد عانق الثالثة.. صوت يحضر من بعيد؛ ليتعايش مع الزمان والمكان في الغرفة، حيث لا أحد إلا فتاة عشرينية تدثرت بغطاء سميك، ورحلت روحها إلى السماء، بينما بقي جسدها ممدداً على السرير.. حركة مفاجئة. الجسد الممدد يتحرك ذات اليمين، وذات الشمال، ثم تحين منها التفاتة إلى الستارة التي تعانق الهواء مرحبة بقدومه.. الخوف يسري في الجسد الذي عادت له روحه، حيث صورة أشباح تتخيلها عينا الفتاة.. زادها تعقيداً أصوات مختلطة تخترق سكون الليل وظلمته.. كان التسبيح والتهليل لطرد همزات الشيطان ووساوسه.. تناولت الفتاة كأساً من ماء كان على الطاولة القريبة..نهضت، وأضاءت نور الغرفة.. اتجهت صوب النافذة، تحدق في المدينة التي ماتت أزقتها، وشوارعها، وخلت أرصفتها، وهربت منها أنفاس الأحياء.. هدوء يغري النفس المشبعة بالألم بأن تبث شكواها.. وأحزانها.. شريط الحياة اليومية يغري ذهنها باستعادة كتاب أحزان حياتها المكتوب في ذاكرتها.. أين من عمروا الدنيا بأنفاسهم..؟! ترى.. أين هي أرواحهم الآن..؟! ماذا تعمل أرواحهم بلا روح تحركها..؟! هؤلاء ينتظرون سويعات ؛ ليستدعوا أرواحهم ؛ لمعانقة أجسادهم -بأمر الله -؛ ليعودوا للحياة.. للعطاء.. للحركة والنماء.. ولكن..؟!.. ما بال أبي الذي رحل إلى باطن الأرض..؟! وأمي التي غادر جسدها الطاهر إلى حفرة..؟! ما بالهم لا يعودون..؟! هنا سافر فكر اليتيمة؛ ليعانق ذكرياتها مع أبيها وأمها.. تعطلت كل حواسها لأنها تعيش لحظات في عالمٍ آخر.. عالمٍ افتقدته منذ ربيعها السادس.. إلا الألم فإن ذاكرة الصغيرة لا تنساه.. لم تطل الرحلة.. فأصوات الديكة، وترانيم المؤذنين قطعت مسيرتها.. لتعود لها حواسها، ولم تجد إلا دمعات قد انسكبت من عينيها، وجرت على خدها، لتقول لها: أنا صديقتك التي أحمل أثقال آلامك، وأخرجها بعيداً عنك.. فلا تحزني.. يا صديقتي..