«م» واحدة من مئات الحوريات في هذه الحياة..، حين شق نور الدنيا خيط عينيها فأبصرت..، خرجت بصيرتها تتلقى الصورة، والصوت، وتعود لمحاكاتها حركةً..، وفعلاً..، مع أي من الموجودات تحيط بها.. عرفت كما يعرف الإنسان معنى اللسع حين تلمس النار..، والبرد حين تتماس بالثلج..، ولوقع الأصوات لمسةُ الكفِّ في وجدانِها.. كبرت «م»، ولم تعد ذلك الحرف المنفصل عن مشيمة أمها..، تلك التي تركتها بين كفي جدَّتها، وذهبت للسماء روحها..،.. في حضن جدَّتها عرفت كل المعاني للحب، والجمال، والإيثار، وتلذَّذت بطعم العطاء، والتفاني..، تعاهدت وجدَّتها مع الصبح المشرق في البسمة، والكلمة، والسَّكن الآمن في الدار، وعند الرقاد، وعند الوسادة.. لكنها لم تعرف أضداد تلك المعاني في حضور جدَّتها..! وعلى حين غفلة لم تجد جدَّتها.. كان آخر ما سمعته منها دعوةً ودَّعتها بها في صبيحة آخر يوم تذهب فيه إلى المدرسة، وتعود لينطفئ كلُّ شيء بين عينيها.. خرجت «م» بأحزانها تبحث عن عمل.. الدار فارغة إلا بها، تمتلئ بعض زواياها، وتعصف الوحشة.. والخوف في محتواها.. دبيب الغروب ماردٌ تتقرفص عندما يحين على نفسها..، وتنفُّسُ الصبحِ يوقدها متحررةً من الخوف،.. لكنها مثقلة بالغربة، والوحشة، والوحدة..!! تلك المعاني الجميلة التي عرفتها في محضن جدتها، وتلك القوة التي خرجت بها للمدرسة، وتعايشت بوقيدها مع المعلمة، والموقف، والزميلة في حضور جدَّتها انهارت فجأة بين عينيها.. «م» تخشى الجار..، والمارق بالجوار،.. تهاب الشارع كثيف الظلال، والظلام، والتعرجات، والنهايات.. رغيفها المُشبع غدا قطعةً جافةً بالكاد تزدردها.. ثوبُها المزخرف تحوَّل لأسمال لا تضحك.. كأسُ مائها تجمدت فيه دموعها.. «م» تذكرت بقوة يد جدتها التي حفرت..، وجهدها الذي بذلت..، وأملها الذي رسمت.. أدنت جلبابها، وضربت عليها خمارها، استعادت وقوداً من صوت جدتها، وكفيها..، وانطلقت..، تعاركت مع الشارع، والمنعرجات، وخوف الليل.. تعاهدت مع الصباح.. سنوات..، نسيت فيها، ومن ثم بعدها كل شيء من الوحدة والوحشة وغربة المعاني.. إلا إرث جدتها بثرائه، ونوره، وخضرته.. «م» اليوم هي اسم يشار إليه بالبنان.. وقصة كفاح تسري بها الركبان.. والناس في دوامات الحياة يموتون ويحيون..، يروحون، ويجيئون.. وكل أمر ما لم تفقهه..، لن تتغلب عليه..!!