غارت عينيّ من المذاكرة في ليلة من ليالي الاختبارات الحالكة، فقررت أن أروّح عن نفسي قليلاً بعد منتصف الليل.. لكن بم؟ عزمت على زيارة السوبر ماركت الكبير القريب من سكني، فالتسوق هوايتي (هو هواية كل هارب من المذاكرة بالمناسبة). كان تفكيري مشتتاً ما بين تنظيم جدول المذاكرة وبين الأيام القادمة وضيق الوقت وصعوبة الاختبارات أثناء سيري من سكني إلى السوبر ماركت، ولم أدرِ بنفسي إلا وأنا في السوق.. لم أشعر بالطريق، وتوجهت كالعادة إلى ركن الجرائد والمجلات.. السوق مليء بالناس.. نساء ورجال وأطفال كل يدفع عربة السوق.. ألقيت نظرة سريعة على المجلات.. وقع نظري على صورة فتاة فاتنة بأحد الأغلفة.. انتبه البائع وجاء نحوي. - أهلاً وسهلاً.. كيف أخدمك؟ - لو سمحت.. تلك المجلة. أحضر البائع المجلة.. وبدأت بالتصفح.. ثم وضعتها جانباً على طاولة الزجاج، وقلت له: - من فضلك.. تلك المجلة. أخذت الثانية ووضعتها بجانب الأولى وبدأت بتقليبها، فإذا بتلك اليد الجميلة تمتد إلى المجلة الأولى وتسحبها.. لم ألق بالاً وتظاهرت باللامبالاة، والحقيقة أن تفكيري ظل مشدوداً إليها، فألقيت نظرة لتلك الفتاة التي يغطي رأسها وشاح.. وعلى وجهها لثام.. ومعلق بكتفها حقيبة.. وفي يدها هاتف جوال.. استطعت أن أرى العينين بنظرة خاطفة.. عينان رسما رسماً بالكحل.. عرفت -في تلك اللحظة فقط- ما معنى العيون النجلاء. تمالكت نفسي وكأني لم أر شيئاً، وتركت المجلة لأكمل جولتي المعتادة، فتوجهت إلى ثلاجة الألبان، وألقيت نظرة وأنا أحدث نفسي هل أحتاج إلى لبن أم لا؟ وفي النهاية قررت ألاّ آخذ لأن اللبن قد يساهم في نومي.. وأنا أهرب من النوم هروباً خصوصاً في هذه الفترة الحرجة. غادرت ثلاجة الألبان وتوجهت إلى ركن العصائر وبدأت أقلّبها تارة آخذ هذا وأعيد ذاك، وبينما أعيد إحدى العبوات سقطت عيني على مرآة الثلاجة فلاحظت سواد عباءة عند الركن ورائي. نظرت إليها فإذا هي صاحبتي التي كانت عند ركن المجلات.. وضعت العصير من يدي وأنا أشعر بعيونها تنظر إليّ. تحركت إلى زاوية المنظفات، فتبعتني وعيونها تخترق ظهري.. استدرت لأواجهها وأخذت أحدّق بعيونها فأخذت تحدّق بعيوني.. لم يستطع أي منا أن ينظر سوى في عين الآخر. شعرت أن شيئاً ينبع من قلبها ويصب في عينيها.. أحسست أن موجات كهربائية تخرج من عيونها إلى عيوني ثم إلى قلبي تكويه. أحسست أني أرتشف شيئاً لم أعلم ما هو.. ارتبكت وارتجفت، وبحركة عشوائية ارتطمت يدي بعلب الغسيل فسقطت إحداها على الأرض، فابتعدت عن المكان إلى ركن الفواكه، فانحنت في رشاقة، ورفعت العلبة من على الأرض ووضعتها مكانها وهي تنظر إليّ. أخذت أقلب التفاح في حيرة من أمري.. من هذه الفتاة؟ وماذا تريد؟ هل أعجبها؟ كيف أعجبها وأنا في هذا الحال الذي لا يوحي بالإعجاب؟ «أين أنت من قبل؟ أين أنت من غير أوقات الاختبارات والمذاكرة؟ كم تمنيت وتمنيت!» وضعت بعض التفاح في كيس وذهبت إلى الميزان: - لو سمحت.. زن لي هذه الحبات. «ما العمل؟ هل أكلمها؟ هل أتركها؟ هل أعطيها رقم هاتفي؟ ما العمل؟ يا سوء حظي.. لا تأتني الفرصة إلا وأنا مشغول بالاختبارات، وليس لدي وقت للغزل والعش والغرام؟» اتجهت نحوي مباشرة وعيناها تخترقان وجودي، حتى وصلت ووقفت بجانبي.. احتك جسدها بجسدي بحركة بدت عفوية.. ما العمل؟ كانت النار تشتعل في بدني، وهي تقول: - زن لي هذا التفاح. لم أعرف أتحدثني أم تحدث البائع الذي أفقت عليه وهو يعطيني تفاحي، ويأخذ منها كيسها ويضعه على الميزان.. وعيناها لا تفارقني أبداً. ذهبت بخطى مسرعة إلى المخبز دون أن التفت إلى الخلف محاولاً تجاهلها، وبعد أن وصلت اكتشفت أنها اختفت. أين ذهبت؟ هل سئمتني؟ هل وجدت أحداً غيري؟ كنت أتهرب منها قبل قليل والآن افتقدها؟ ماذا جرى؟ كنت أكلم نفسي، ولم أدرِ إلا وأنا في ركن الملابس.. تلك الزاوية المنزوية والبعيدة عن الأنظار التي لا يوجد بها أحد. فجأة وجدتها أمامي فأخذت أتصبب عرقاً.. ماذا أفعل؟ أحسست أن جسدي يشحن كل طاقته وجرأته.. فاستدرت نحوها وركزت عيني على عينيها وبكل جرأة قلت: اسمعي أيتها الجميلة.. أنا الآن في أيام يصعب عليّ أن أضيع دقيقة واحدة من وقتي ولكنك لا تجعلين لي فرصة للهروب.. فإذا أردت أن تأخذي رقم هاتفي فخذيه.. وإن أردتِ أن تخرجي معي فإنني على أتم الاستعداد للتضحية بهذه الليلة.. لكن يجب أن تسمحي لي برؤيتك. بدأت ترفع اللثام وهي تقول: - بل قبلة يا محمد. محمد؟ كيف عرفت اسمي؟ وما إن بدت ملامح التعجب على وجهي.. حتى رفعت لثامها.. يا للهول.. يا للمفاجأة! من؟ خالتي أم عابد؟ انفجرت ضحكاً، وأسقط بيدي. - لماذا يا خالتي فعلت ذلك؟ - لأختبر قدرتك على مقاومة الإغراء والنساء. - وكيف وجدتني؟ - للأسف.. راسب.