ما زال العمل الخيري يُواجه معوقات تؤثر في مصداقيته، وتتسبب في تضييق الخناق عليه، بهدف إجهاضه. لم يترك تنظيم القاعدة باباً للخير إلا أغلقه، فكان سبباً من أسباب تراجع عمل المؤسسات الخيرية الإسلامية حول العالم، وتمدد المؤسسات الصفوية، والتبشيرية التي استخدمت العمل الإنساني والتبرعات كغطاء لأعمالها المشبوهة. وجد الغرب في تنظيم القاعدة، وجماعة الإرهاب ضالته المفقودة، وأداته الحادة التي يقطع بها جسد العمل الخيري الإسلامي، ويقلص من مناطق انتشاره، حتى أعاده إلى نقطة الصفر تاركاً الساحة للجماعات الصفوية التي تمددت بشكل لافت في الدول الإسلامية الفقيرة، مستغلة الأعمال الإنسانية كغطاء لتنفيذ إستراتيجيتها المشبوهة. انتهجت دول الغرب سياسة صارمة لمحاربة المؤسسات الخيرية الإسلامية، ووقف أنشطتها الإنسانية، ونجحت في استصدار قوانين دولية لمكافحة تمويل الإرهاب، وهي نفس القوانين التي استُغلت لمحاربة الأعمال الإنسانية، والتبرعات الخيرية التي كانت تصل المناطق المحتاجة، والشعوب الفقيرة.. لم تفرق قوانين مكافحة الإرهاب بين المؤسسات الخيرية النزيهة، والمؤسسات المشبوهة، ما أدى إلى الإضرار بالعمل الخيري وتوقفه. نجحت السعودية في تنظيم العمل الخيري، وضَحَّت ببعض مؤسساتها الإنسانية الموثوقة، بغية التنظيم الصارم وتوحيد الجهود الإغاثية في الداخل والخارج.. تحملت وزارة الداخلية عملية جمع التبرعات النقدية في حسابات خاصة يسمح للجميع المساهمة فيها، وقدمت خلال السنوات الماضية مئات الملايين من الدولارات للدول الإسلامية المنكوبة.. لم تعتمد المملكة على التبرعات الشعبية، بل قدمت تبرعاتها الرسمية لإغاثة المحتاجين والمنكوبين. أظهرت الأزمة السورية حجم المساعدات الإنسانية التي قدمتها السعودية، حيث فتحت باب التبرعات الشعبية، إضافة إلى التبرعات الإغاثية الرسمية التي وجهت للإنفاق على مخيمات اللاجئين في تركيا والأردن، وتبرعات أخرى لدعم الدول العربية الحاضنة.. لم تكتف السعودية بتلك المساهمات السخية، بل قدمت مليارات الدولارات من أجل حماية الشعب السوري الأعزل من قوات الغزو الصفوية، والنظام الأسدي. برغم حجم التبرعات، يبقى الشعب السوري أكثر حاجة للمساعدات الإغاثية الخليجية، والسعودية منها على وجه الخصوص.. المساعدات الرسمية لم تعد كافية، كما أن الشعوب المسلمة تشعر بمسؤولياتها تجاه المنكوبين من المسلمين ما يحملهم على دفع مساعداتهم النقدية والعينية لكل من يدَّعي قدرته على إيصالها للاجئين، دون تأكد أو تمحيص. سماحة مفتي عام المملكة، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، حذَّر المواطنين والمقيمين من «التبرع لجهات غير رسمية والتي تدَّعي مساعدة أشقائنا المتضررين في سورية واللاجئين خارج حدودها»، مؤكداً على «أن هؤلاء الذين يدّعون نصرة إخواننا السوريين المتضررين يكذبون ويفترون فيما يقومون به من عمل مخالف». شرطة منطقة الرياض أحبطت حملة وهمية لجمع التبرعات للشعب السوري وتمكنت من القبض على خمسة أشخاص من جنسية عربية اعترفوا بأنهم «يقومون ببيع تلك التبرعات من البطانيات والمواد الغذائية وملابس الأطفال لحسابهم الخاص».. إساءة استغلال تبرعات المسلمين لا تنفي وجود المؤسسات الخيرية النقية التي تخشى الله في كل ما يصلها من تبرعات، وتحرص على إيصالها لمستحقيها. تمنع الأنظمة والقوانين الرسمية دفع التبرعات لغير الجهات المرخصة، إلا أن المشاهد الإنسانية المؤلمة في سوريا، ومخيمات اللاجئين، تدفع بكثير من المحسنين إلى دفع تبرعاتهم لمن لا يستحق الثقة.. ومن هنا تظهر الحاجة إلى وجود قنوات مؤسسية موثوقة، خاضعة لإشراف الدولة، تسهم في مساعدة المحسنين على إيصال تبرعاتهم لمستحقيها. أعتقد أننا في حاجة ماسّة إلى مؤسسة خيرية دولية قادرة على القيام بدور الوسيط بين المتبرعين وأصحاب الحاجات في الخارج.. غالبية المتفاعلين مع الحملات الوهمية يبحثون عن سرعة إيصال المساعدات، في الوقت الذي يعتقدون فيه أن المؤسسات الشعبية أكثر كفاءة في سرعة إيصالها، من الجهات الرسمية، وهو اعتقاد خاطئ ولا شك. إنشاء مؤسسة خيرية عالمية، خاضعة للإشراف الحكومي، بفروع متعددة في جميع مناطق المملكة، قد تسهم في ملء الفراغ الذي تستغله الجماعات الدخيلة على العمل الخيري.. ارتباط المؤسسة الخيرية بمؤسسات الإغاثة العالمية سيسهم ولا شك في تدفق المساعدات العينية بسهولة أكبر، خصوصاً أن تلك المؤسسات تمتلك الغطاء الدولي والخبرة الواسعة في الأنشطة الإغاثية العالمية.. نحن في حاجة ماسّة للتوسع في الأعمال الخيرية الشعبية من خلال القنوات والمؤسسات الرسمية الفاعلة، التي تضمن للمحسنين إيصال تبرعاتهم النقدية والعينية، بأمانة، وفي مدة زمنية قصيرة، فالأزمة السورية، وأزمات الشعوب الإسلامية الأخرى في حاجة إلى كل عمل إنساني يمكن تقديمه، مهما قلّ حجمه.