وصف معالي الشيخ عبد العزيز بن صالح الحميد، رئيس محكمة الاستئناف بمنطقة الرياض الصبر عند الشدائد والمحن بأنه من الخلق الحميد الذي أوصى به الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وحثّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة، وهو ضياء حياة المؤمن، ورأس أخلاق الإيمان، وأشد ما تحتاجه الأمة في حياتها الراهنة، وصعوباتها التي تواجهها. وقال معاليه في حديث ل«الجزيرة» عن: (الصبر عند الشدائد والمحن): إن الصبر هو الخلق الذي وصى الله به القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعاً، ما بين أمر به، وبين نهي عن ضده (وهو القنوط والجزع)، وبين ثناء على أهله، وبين بيان لعظيم مكانتهم عند الله في الدنيا والآخرة، وهو الخلق الذي تحتاج إليه الأمة في أحلك أيامها وأشدها بلاءً، وهو الطريق إلى الله إذا اشتدت الظلم، وصدعت الأمواج العاتية شواطئ الحياة الآمنة. وركز معاليه حديثه على إيضاح معنى الصبر، وأنواعه، وفضله، ودوافع الصبر ووسائله، وجزاء الصابرين، فقال: إن معنى الصبر: حبس النفس على ما تكره، والنفس - كما تعلمون - عدو ما تكره، وحبسها عليه هو قمة المجاهدة لها، ولذا قرن الله عز وجل الصبر على الشدائد بالجهاد في سبيله، لأن جهاد الإنسان عدوه من داخله (وهو نفسه) لا يقل ضراوة عن جهاده عدوه من خارجها، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ولله در الإمام ابن القيم - رحمه الله - حين جعل الصبر نصف الإيمان، وجعل نصفه الثاني الشكر، مصداقاً لما رواه مسلم بسنده عن صهيب بن سنان صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا المؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له». وبيَّن معالي الشيخ عبد العزيز بن حميد أن أنواع الصبر ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على ابتلاء الله، ولعل أعظم هذه الثلاثة هو الصبر على طاعة الله، فإنه صبر الرضا والاختيار، لا صبر الإكراه والاجبار، وعظيم هو فرق ما بين الأمر المرضي المختار على نزاع النفس فيه، والأمر الواقع الذي لا بد أن يقبل، أما الصبر عن المعصية فهو مجاهدة النفس الأمارة بالسوء على ما تحبه وتهواه، وأسرها في حمى الطاعة والإيمان قبل أن تأسرها الذنوب فيجب لها الخذلان، والصبر على ابتلاء الله عز وجل هو الذي حكى عنه ربنا في القرآن قائلاً - عز من قائل -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، مشيراً إلى أن الصبر هو قمة العطاء الإلهي شمولاً واتساعاً، وهو من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، مصداق ذلك ما روي في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري صلى الله عليه وسلم أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال صلى الله عليه وسلم: «ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاء خيراً وأوسع من الصبر»، ومن فضائل الصبر أنه باب الإمامة في الدين، قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، فجعل عز وجل الإمامة في الدين مترتبة على الصبر واليقين، وما الصبر من اليقين إلا كالنبتة الغضة الناضرة من الأرض الطيبة، هذا رسولنا إمامنا صلى الله عليه وسلم قضى في سبيل دعوته في مكة ثلاثة عشر حولاً وهو يلاقي نفوساً طاغية، وألسنة ساخرة، وأيدي باطشة، فأُهين وأُهين أصحابه، واستضعف واستضعف من معه، كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف عنه الأذى جملةً، ولكنها سنّة الابتلاء يُؤخذ بها الرسول الأكرم وصحبه، يستبين صبرهم، ويعظم عند الله أجرهم، وليتعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد ويصبرون على ما يلاقون من الأذى - صغيراً كان أم كبيراً - بيقين ثابت وإيمان راسخ. وفي هذا الشأن حثّ الشيخ الحميد الأمة على الصبر قائلاً: اصبري وصابري ورابطي، إن كان بعضنا قد أهين في وطنه فقد أهين في وطنه أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم فصبر، فعليكم بالصبر، وإن كان بعضنا قد أخرج من دياره فقد أخرج من دياره أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم فصبر، فعليكم بالصبر، إن الحياة كفاح.. ومن ظن الحياة نعيماً مقيماً، وراحة دائمة، فقد أبعد النجعة في الظن، وأساء التقدير والحساب، موضحاً أول دوافع الصبر وهي: التقوى واليقين، فبهما يستضيء القلب، ويخلد إلى واحة ربه عز وجل آمناً مطمئناً، يدافع كروبه بتقوى الله، ويواجه بلاءاته بيقين في فرج الله، ولذلك خص الرسول صلى الله عليه وسلم فضيلة الصبر بما كان منبعه اليقين والتقوى، فقال - فيما رواه الشيخان عن أنس صلى الله عليه وسلم -: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»، ولا يكون الصبر عند الصدمة الأولى إلا مع ثبات القلب على اليقين، واستضاءته بنور التقوى، ومن وسائل الصبر المعينة عليه.. التفكر في عاقبته، فإن من علم عاقبة الصبر وجزاءه، وما وعد الله به الصابرين من التعجيل بالفرج في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة، علم أن الصبر أرأف من الجزع، وأن الأمل أعلى درجات من القنوط، وأن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأنه قدر التعب تكون الراحة. وقال معاليه: على المرء أن يعلم أن الله عز وجل مخلف له جزاء ما تعزى وصبر، ولذلك كان الصبر من عزم الأمور، قال عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من يرد الله به خيراً يصب منه»، وروى الترمذي عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله عز وجل وما عليه خطيئة»، ومن الوسائل المعينة على الصبر كذلك الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، فقد قال عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وروى الحاكم في المستدرك عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان - أي: يصطرعان - إلى يوم القيامة». بعد ذلك تحدث رئيس محكمة الاستئناف بمنطقة الرياض عن جزاء الصابرين قائلاً: فما أعظمه من جزاء، وما أوسعه من عطاء، قال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، وروى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد». وواصل القول: ومن جزاء الصابرين أنهم يوفون أجورهم يوم القيامة بغير حساب، فقد قال عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أما أعظم جزاء للصبر فهو الجنة مبتغى الأولين والآخرين، ومنزل الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين، حيث النعيم الذي لا شقاء معه، والعيش الذي لا تنغيص فيه.. فهنيئاً لكم أيها الصابرون بجنة «عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين.. سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار»، روى البخاري في صحيحه عن أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى (ما لعبدي المُؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنةُ), كما روى البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتوسد بُردة لهُ في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصرُ لنا! ألا تدعو لنا! فقال صلى الله عليه وسلم: قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه»، كما استشهد معاليه بما كان من أمر أبينا إبراهيم عليه السلام إذ صبر على ذبح ولده، فرفعه الله هو وولده إلى أعلى عليين، وجعل له ولآله لسان صدق في الآخرين، واذكروا أيوب عليه السلام وما كان فيه من بلاء، فما فتر عن الدعاء.. رب إني «مسني الضر وأنت أرحم الراحمين»، فأثنى عليه ربنا عز وجل وقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ثم قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ}.