تنفس التونسيون الصعداء بعد سماعهم خبر انتهاء العملية العسكرية والأمنية في شمال البلاد ونجاح القوات في القضاء على المجموعة المسلحة التي اغتالت عوني أمن وجرحت ثالثاً يوم الخميس، وذلك بالتوازي مع إعلان رئيس اتحاد الشغل التوصل الى تحديد موعد 23 اكتوبر لإنطلاق الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني. فرحتان في فرحة كان بالإمكان توسيع الإحساس بها وتعميمها على جميع التونسيين، لولا أن نزل بيان لحركة النهضة التي تقود الائتلاف الحاكم، والتي حضر زعيمها الشيخ راشد الغنوشي الجلسة المطولة للتوافق بين الفرقاء السياسيين التي أفضت بعد أكثر من 5 ساعات من التفاوض العسير، الى الاتفاق حول تاريخ عقد الجلسة الأولى من الحوار المنشود. البيان الذي أعاد عقارب الساعة الى الوراء وأوقف سيل الفرح في البيوت التونسية تضمن الى جانب الإقرار بالتوصل الى وفاق، تأكيداً من الحركة على «تلازم المسارات بما يعني أن أي تغيير حكومي فعلي سيتم بعد المصادقة على الدستور واستكمال المهام التأسيسية.» إذن سوف لن يقع تنفيذ أولى بنود خارطة طريق الرباعي الراعي للحوار مثلما تم الإعلان عن ذلك على لسان الحسين العباسي رئيس اتحاد الشغل الذي انتشى فرحاً بتوصله الى توافق الحكومة والمعارضة على وضع تاريخ محدد للانطلاق الفعلي للحوار بعد مشاورات ماراطونية استنزفت كافة طاقاته «التوفيقية». فالعباسي الذي صرح للصحفيين بأن الحكومة قبلت بإعلان استقالتها يوم 23 أكتوبر الجاري، يبدو أنه مدعو الى مراجعة حساباته إثر صدور بيان حركة النهضة المخالف تماماً لما التزم به هو علناً. فلا شيء يدل على أن حكومة علي العريض تستعد للرحيل في هذا الموعد الرمز الذي تعتبره المعارضة تاريخاً لانتهاء الشرعية الحكومية الحالية، ولذلك فهي مقرة العزم على تنظيم مليونية الغضب لجر الحكومة الى الرحيل، فيما تقرؤه الترويكا على أنه ذكرى اعتلائها سدة الحكم إثر فوزها في أول انتخابات تشهدها تونس بعد الثورة. ألا أن الأيام القليلة القادمة التي ستمر عصيبة على التونسيين الذين نفد صبرهم من مماطلة رجالات السياسة في السلطة وخارجها، بالنظر الى ازدواجية الخطاب التي تهيمن على تصريحات القيادات السياسية التي تتلون بتلون الجمهور المستهدف. فالخارطة السياسية التي اتفقت كل الأطراف على تنفيذها بدءاً بانطلاق الحوار الوطني، وصولاً الى إعلان حكومة الترويكا استقالتها وتوجيه الاهتمام الى طرح أسماء لتشكيل حكومة الكفاءات المستقلة، سوف لن ترى النور طالما أن المعارضة تشترطها كخطوة أولى فيما تعتبرها حكومة علي العريض هدفاً للحوار. ويذكر هنا أن النقابات الأمنية أعلنت رسمياً عن نيتها الاعتصام في مداخل المجلس التأسيسي لمنع أعضائه من الدخول والخروج منه في حال استمروا في تجاهل مقترح رجال الأمن بالمصادقة على القانون المذكور. في غضون ذلك، أكد مكتب المجلس التأسيسي أنه لم يتلق أي مقترح في هذا المجال نافياً أن يكون أعضاء المجلس رفضوا المصادقة على قانون حماية الأمنيين الذين يشاع أن إياد معارضة للترويكا هي التي تحركهم في الظل لدفعهم الى إعلان العصيان الأمني بعد فشل محاولاتها اليائسة لجر المؤسسة العسكرية الى صفها. ويستدل المتتبعون للشأن السياسي المحلي في قراءتهم هذه للأحداث الأخيرة، على رفع قيادات نقابات الأمن لشعار «ارحل» في وجه الرئاسات الثلاثة يوم الجمعة إبان إشراف العريض والمرزوقي وابن جعفر على حفل تأبين رجلي الأمن الذين اغتالهما الإرهابيون بشمال البلاد يوم الخميس الماضي. وكانت الحادثة قد أثارت غضب الرئاسات الثلاثة فيما أقرتها المعارضة التي سارع بعض رموزها الى زيارة مقر النقابات لتجديد مساندتها لها «في حربها ضد حكومة الترويكا»، باعتبار أن عدو عدوي هو صديقي. في خضم كل هذه الخلافات والتجاذبات السياسية التي لا تنتهي بين الفرقاء، وفي ظل التهديد الجدي بشن مليونية الغضب من جهة، وتنفيذ احتجاجات الأمنيين الخطيرة بالتوازي مع عودة شبح الإرهاب وانتشاره من جهة أخرى، يبرز للعيان مدى عمق متاعب حكومة الترويكا التي تعدد خصومها وانحسر عدد أصدقائها خاصة بعد موجة الاستقالات التي تعصف بحزب التكتل أحد أضلاعها. ومع اقتراب موعد 23 من اكتوبر الجاري، يخشى التونسيون من العودة الى نقطة الصفر باتساع رقعة الخلافات وتمسك كل طرف بمواقفه التي يزعم أنها طوق النجاة للبلاد والعباد ومن دخول سلك الأمن دائرة الحسابات السياسية الضيقة التي تعتبر تهديداً حقيقياً لاستقرار تونس.