إذا كانت تعقيدات الأحوال والإمكانات والظروف قد أثبتت، على امتداد العصور، أن الفقر سيظل موجوداً كآفة من آفات الحياة، إلا أن الكثير من الوقائع والخبرات والتجارب تقول إنه يمكن، بالتأكيد، التخفيف منه، والحد من مضاره الاقتصادية، وتقليص عواقبه الاجتماعية. بل إن هناك من المنظرين الاقتصاديين من يجزم بأن القضاء على آفة الفقر أمر ممكن بالفعل. انظر في التقرير الأخير الذي أصدرته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، وسترى أن هناك، في عالم اليوم، 870 مليون جائع، هم أكثر البشرية فقرا. ولكن التقرير نفسه يشير إلى أننا، نحن الذين لم يخطر لنا الجوع على بال، نهدر كميات من الطعام تكفي لإطعام أربعة أضعاف هذا العدد من البشر. هذا يعني شيئا واحدا: لا يوجد مبرر اقتصادي حقيقي للجوع. وإنما يوجد هدر فقط. وبطبيعة الحال، لا يمكن التحكم بكل أشكال الهدر، ولكن يمكن بالتأكيد كبحه. ولو جاز للمرء أن يحلم بكابح يكفي لتراجع الهدر بنسبة 25% فقط، فإن ذلك سوف يعني أنه لن يظل هناك جائع على وجه الأرض. نحن نعرف أنه عندما يتعلق الأمر بالطعام، فإن الهدر يكاد يكون تحصيل حاصل من جراء ثقافة اجتماعية تهنأ بالإسراف، وتجد في الإفراط في الطعام دليلا على الغنى والكرم وربما لممارسة نوع مألوف من المظاهر الفارغة. ولكن ذلك يكاد اليوم يشكل حكما بالإعدام، لملايين البشر، الذين نقتلهم بإسرافنا، بدلاً من أن نقتل فقرهم. نعم، توجد وسائل للحد من الإسراف في هدر الطعام. وهناك الكثير من المؤشرات التي يمكنها أن تدل على أن الأسر التي تقتصد في طعامها، أغنى وأكثر رفاهية في الواقع من الأسر التي تهدره. لأنها، تعيد توظيف الإنفاق الزائد على الطعام في ما يغنيها من احتياجات أخرى، وما يوفر لها مقداراً أكبر من خيارات الاستهلاك. البلدان يمكنها أن تكون أغنى أيضاً. ببساطة، لأن الفائض المهدر يمكن أن يقلص فاتورة الاستيراد، أو يزيد قيمة الصادرات. وهناك الكثير من الخبرات التي تتيح إعادة توظيف واستخدام الطعام المهدر. من ناحية، لإطعام جياع يمكن الوصول إليهم، إذا ما توافرت الإمكانات لإعداده على نحو لائق. ومن ناحية أخرى، لتوفير أعلاف مجانية، أو رخيصة، لعلها تزيد في حجم الثروة الحيوانية، وتقلص تكلفة إنتاجها، وتحد من ارتفاع أسعارها، مما يجعل المجتمع برمته أغنى، وأقدر على أن يطعم نفسه بمسرة. ثم انظر إلى الجانب المتعلق بالتكلفة المادية وسترى أن الرقم مروع. إذ تقول «الفاو» إن قيمة ما نهدره من طعام تبلغ 750 مليار دولار سنويا. وهكذا، فنحن لا نهدر الطعام الذي يمكنه أن يُطعم الجياع، ولكننا نهدر المال الذي يمكنه أن يساعدهم على إطعام أنفسهم. والسؤال هو: هل كان سيبقى فقر على وجه الأرض لو أمكن توفير جزء بسيط من هذا المبلغ لتوفير الموارد للجياع لكي يعيشوا بمنأى عن هذه الآفة؟ كاتب وناشر ومدير قناة «أي. أن. أن» الفضائية