قلت لمن هاتفني معزياً بوفاة الأخ العزيز والصديق الأعز محمد بن سليمان الضلعان: كيف لا أبكي على صديق وزميل لم أسمع منه لاغية طيلة نصف قرن من الصداقة الحميمة. كان الفقيد مثلاً رائعاً للصديق الوفي والمواطن المسؤول عاش مرفوع الهامة عريض الجانب عفيف النفس، تلك القيم الرفيعة كونت شخصيته التي واجه بها دوره في المجتمع بعد عودته مكملاً دراسته العليا من الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد تجلت تلك الصفات في آخر مهمتين تولاهما أحدهما محافظاً للمؤسسة العامة للتعليم الفني والأخرى والأخيرة عضواً في مجلس الشورى وسجله المشرف في هاتين المؤسستين يعفيني من الإسهاب. أبو سليمان (لمن طلب مني مزيداً من التعريف) ينتمي إلى أسرة الضلعان المعروفة في جنوب مدينة الرس منها المرحوم الشيخ منصور الصالح الذي سخر حياته للوعظ والإرشاد - بالتي هي أحسن - إلى أن اختاره الملك سعود رحمه الله قاضياً في الجنوب حتى وفاته، ومن هذه الأسرة المرحوم علي الصالح الضلعان أحد الرواد الذين أسسوا مدرسة الرس الابتدائية عام 1363ه. لكن العلامة المميزة لهذه الأسرة والتي تجلت في صديقنا الراحل هي شيمة الوفاء التي سطرها منذ قرن ونصف عميد الأسرة محمد بن منصور بن ريس التميمي، والرواية رغم ما أصابها من آفات أصبحت جزءًا من الفلكلور المتداول في بعض مناطق المملكة. كان بن ريس أحد الأجراء في قافلة بن رخيص (بالتصغير مع تشديد الياء) العائدة من الحج وخلال الرحلة أصيب أحدهم بآفة أعجزته عن الحركة فرأى بن رخيص صلب هذا المريض على ظهر واحد من الإبل والاستمرار في الرحلة ومن مفهوم الرواية أن البديل هو تركه يلاقي مصيره. اعترض بن ريس على هذا القرار وقرر البقاء مع خويه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وعندما هم صحبه بالرواح في الصباح الباكر استوقفهم لحظات وحملهم رسالة إلى أمه تنطوي على كثير من المعاني الجميلة النادرة: كل هيه الا ياشايبات المحاقيب اقفن من عندي اجداد الاثاري هنا يتمثل بن ريس حركة الإبل (القافلة) وهي تغذ السير قافلة إلى وجهتها: اقفن بالرخصة كما يقضي الذيب وان طالع الشاوي بليل غدارى لاكن لسب اذيالهن بالعراقيب رقاصة تبغي بزينه تماري أين غيلان (ذو الرمة) من هذا التشبيه: وهل كان يخطر على بال بن ريس لولا أنه استمده من ثقافة مقبولة في أواخر القرن الثالث عشر الهجري! ولله اعلم. ثم يأتي إلى بيت القصيد الذي يتردد على الشفاه يا بن رخيص كب عنك الزواريب عمارنا يا بن رخيص عواري خوينا ما نصلبه بالمصاليب ولا يشتكي منا دروب العزاري وهذان البيتان يلخصان قرار بن ريس الحاسم. ذهبت القافلة وبقى بن ريس مع خويه يمرضه ويطعمه من صيد البر إلى أن من الله عليه بالشفاء، وبقية القصة كما يرويها المرحوم تقول إن والدة بن ريس استقبلت ابنها على مشارف المدينة وهي تولول ملقية برأسها على صدره قائلةً «جيت يابالضلعان» والضلع هو الجبل وهكذا حملت الأسرة اسمها الجديد الذي أصبح مع مرور الأيام ابن ضلعان. هذه القصة والقصيدة أصبحتا إحدى الفقرات التي تقتات بها شلةٍ من الصحاب قرروا لسنوات خلت أن يلتقوا من وقت لآخر بعيداً عن ضباب الأسهم والسياسة في سفينة حب قبطانها الصديق الأثير الدكتور إبراهيم العواجي (أبو محمد)، وكان أبو سليمان رحمه الله أحد الأعمدة الأساسية في هذه الشلة، بل إنه من حافظ على تماسكها وكان بعفويته يستطيع دون غيره مقاطعة القبطان (عندنا يسترسل شعراً أو نثراً) رافعاً عقيرته في محاولة لتغيير دفة السفينة: البارحة ساهرٍ والدمع يجري والقلب حزنٍ على فرقا حبيبه ويصدح الجميع ويحلوا السمر وإذا سلمنا بقاعدة إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذا البيت يلخص ما آلت إليه تلك الشلة فقد تفرق الصحاب، فتك الموت ببعضهم وتولت نوائب الزمن البقية الباقية .......... وآه منك يا زمن!! رحم الله الفقيد وأسكنه وارف جناته.