الحمد لله الكريمِ الجواد، اللَّطيفِ بالعباد، الذي من اعتَزَّ بِهِ ساد، ومن تَمَسَّكَ بكتابه أَيَّدَهُ وحماهُ من الأضداد، المَلِك الذي تَفَرَّدَ بالخَلْقِ والإيجاد، وتَوَحَّدَ بتدبيرِ أُمورِ العباد، المتعالي بعظمتهِ عنِ الأنداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً ندخرها ليومِ الدين، يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله سيِّدُ المرسلين، وقائدُ الغُرِّ المُحَجَّلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيراً. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه، وراقبوهُ دَوْمًا ولا تعصوه. إخواني: لقد مَنَّ اللهُ على هذه الأمة فجعلها أمةَ هدايةٍ وقيادة، اختارها الله لأشرف رسالاته، فبعث فيها أفضلَ رُسُلِهِ، وأنزل عليها أعظمَ كتبه، ووعدها النصر إن هي نصرت دينه، والكرامةَ والعزَّةَ إن هي تمسكت بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد كان لهذه الأمةِ شرفُ قيادةِ العالمِ قُرونًا طويلة. فالأمةُ التي تسيرُ على شرع الله ونهج رسوله صلى الله عليه وسلم تصل إلى مبتغاها وتنال مناها، والله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه يُسددها وينصرها ويرعاها، وإذا تركت الأمةُ أمر ربها، وخالفت أحكام دينها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم سلك الله بها طريق الشقاء حتى ترجع إلى دينها، وما أهونَ الخَلْقِ على الله إذا هم أضاعوا أمره، وجاهروا بمعصيته، وقصَّروا في أحكام دينه، وهل عُذِّبَتْ أمةٌ من الأمم في القديم والحديث إلا بسبب ذنوبها؟! لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (الرعد:11)، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (الشورى:30). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمنُ ما حرَّم الله» (متفق عليه). وقد قيل: رأيتُ الذنوبَ تُميتُ القلوب وقد يورثُ الذِّلَّ إدمانها وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوب وخيرٌ لنفسكَ عصيانها إخواني: إن للمعاصي والذنوب أثرًا بالغًا على الأبدان والقلوب، وشؤمًا واضحًا في حياة الشعوب. قال الإمام العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - ما خلاصته: «فمما ينبغي أن يُعلم: أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!». ومضى - رحمه الله - يعدد عقوبات الذنوب والمعاصي، وآثارها على القلب والبدن في الدنيا والآخرة، إلى أن قال رحمه الله: فمن عقوبات المعاصي: حرمان العلم والرزق، والوحشة والعسر، ووهن القلب والبدن، وحرمان الطاعة، ومحق البركة، وهوان العبد على الله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الحج: 18). وفساد العقل، وضعف العزيمة، والختم على القلوب، وإطفاء نار الغَيرة، وذهاب الحياء، وإزالة النِّعم، وإطالة النِّقم والخوف والرعب والقلق، وعمى البصيرة، ومنع القطر، وحصول أنواع العذاب والبلاء والشقاء في الدنيا وفي القبر وفي يوم القيامة. وبالجملة: فكل شرٍّ وفسادٍ في الماء والهواء، والزرع والثمار والمساكن والعباد والبلاد والبر والبحر والجو والعاجل والآجل فسببه: الذنوب والمعاصي، كما قيل: إذا كنتَ في نِعْمةٍ فارْعها فإن المعاصي تُزيلُ النِّعَم وداوم عليها بشكرِ الإله فشكرُ الإلهِ يُزيلُ النِّقَم يقول ابن عباس رضي الله عنه: «إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسعةً في الرِّزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القبر والقلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق». وقال الحسن البصري - رحمه الله - عن أهل المعاصي: «إن ذُلَّ المعصيةِ لا يفارقُ قلوبهم، أبى اللهُ إلاَّ أن يُذِلَّ مَنْ عصاه». فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن المعاصي ما حَلَّت في ديارٍ إلا خَرَّبتها، ولا في قلوبٍ إلا أعمَتْها، ولا في أجسادٍ إلا عذَّبتها، ولا في أمةٍ إلا أذلَّتها، ولا في نفوسٍ إلا أفسدتها، ولا في مجتمعاتٍ إلا دمَّرتها. إخواني: إن المسئوليةَ لِصَدِّ وباءِ الذنوب وعواقبها الوخيمة على الفرد والمجتمع تَقَعُ على عاتقِ كُلِّ مسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» (متفق عليه). كلٌ يُقَوِّم نفسه، ويحفظ أسرته، ويربي أولاده على حُبِّ الخيرات، وترك المنكرات، ويسعى حسب قدرته واستطاعته إلى تطهير مجتمعه ومحيطه من أدران المعاصي. واعلموا - رحمكم الله - أنه «ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة»، ألا فلتلهج الألسنة بالاستغفار والتوبة النصوح؛ لعل الله أن يعفو ويتوب ويتجاوز، فقد وَعَدَ عبادهُ بذلك في قوله سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر: 53). فطوبى لمن أخلص لله تعالى في أقواله وأفعالِه، ورجا فضله في حالهِ ومآلهِ، وطهَّرَ قلبهُ من البغضاءِ والعداوة للمسلمين، وتعاون معهم في أمورِ الدنيا والدين، فتوبوا إلى الله رب العالمين، وأرجو رحمة أرحم الراحمين، أما ترون الله تعالى يصرفُ عنكم أمورًا وشرورًا قد انعقدت أسبابُها بما كَسَبتْ أيدي العباد، لتتوبوا إليه وترجعوا عن الشرِّ والفسادِ، أما علمتُمْ أن المعاصي تخربُ الديارَ العامرةَ، وتسلبُ النِّعمَ الباطنة والظاهرة؟ فكم لها من العقوبات والعواقب الوخيمة، كم أزالت من نعمةٍ، وأحلَّت من محنةٍ ونقمةٍ، فاتقوا الله عبادَ الله واحذروه، واعلموا أنكم لا بُدَّ أن تلاقوه، فيحاسبكُمْ وينبئكم بما قدَّمتُموه وأخَّرتُموه. اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا وأموالنا وذرياتنا، واجعلنا في هذا الشهر من المقبولين، واجعلنا من عتقائك من النار يا رب العالمين، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا رب العالمين، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. - الإدارة العامة لتطوير الخطط والمناهج بوكالة الجامعة لشئون المعاهد العلمية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية [email protected]