الحياة بالنسبة إلى الشاعر ممزقة دائمة التوتر، فاقدة للاطمئنان والهدوء، تبعثره الأيام وما إن يجمع شتات نفسه إلا وتفرقه من جديد، فيروح يحكم إغلاق الأبواب على جسده المنهوك، فتتقافز أشلاؤه من النافذة، يتعقبها مكرراً الصرخة تلو الصرخة، ليثبت بأنه لا يزال على قيد الحياة، يمعن في الركض أكثر فيعترض طريقه جدار الواقع، وكالعادة يرتطم فيه، وبينما يظن أنه مات يولد من جديد، وشيئاً فشيئاً يضيق الأفق في عينيه وتهب الرياح من كل اتجاه، فيزداد توتراً وتمزقاً، وفجأة، يحس بيد حانية تربّت على كتفه وتدعوه لمناجاة حميمة، يغافل الناس ويدخل في نفسه دخول الخائف المرعوب، لكنه لا يلبث أن يشعر بالاختناق فيندفع إلى الخارج، ليهيم على وجهه محاولاً الهروب إلى عالمه المتخيل، من هناك تشق القصيدة طريقها نحو الورقة، وبحفنة من مسحوق الشعر ممزوجاً بسائل الوهم الذي يجيد صناعته بكفاءة متناهية يقوم بطلاء كل ما حوله، الناس والأشياء، من هنا يصل الى بر السكينة، فيغمره الهدوء ويعمه الصفاء، خفيفاً شفيفاً يعبر طريق الحياة ويعبق بالحب، كجملة موسيقية بديعة، تسري في الأوصال وتطلق فيها تيار العافية، وما حدث من قبل يحدث الآن فإن قصيدة واحدة لا تكفي لعقد صداقة دائمة مع الزمن، وبتواطؤ ما بين اللغة والإيقاع والحدث ينمو القلق بطريقة تلقائية، يدخل فيه الاثنان (الشاعر والمتواطئون عليه) صراع غير متكافئ، يكون ضحيته الشاعر هدوءاً وسكينة، وثمرته نص يعبر الآفاق، ليؤكد على شيء واحد هو عجز الشاعر عن المقاومة وتأبيه على الاستسلام في آن معاً، يوجد ذلك في نص القاتل المقتول للحميدي الثقفي: ابقتل مولدي وادري بصير القاتل المقتول ولكني كسرت المستحيل ونقطة ابعادي على جسر الضياع المنتمي للخوف والمجهول افتش عن سطور الموت عن تاريخ ميلادي كما يوجد عند أحمد الناصر الأحمد في نص الأسوار: مثل احتضار الأسئلة مثل الاصرار مثل القلق قبل افتراش السكينة مثل انبعاث الرعب من جذوة النار مثل الأمل لا مات فوق السفينة مثل التردد بالخطى عند الأسفار والنزف داخل ذكرياتٍ دفينه مثل الصراخ الميت في بعض الأشجار مثل الفرح لا من تعثّر بحينه ويمضي النص في تناميه متصاعداً نحو مسرح الرؤية الشعرية، حيث يقف الشاعر متفرجاً على نفسه، يشرحها ويحللها سطراً سطراً، إلى أن يصل إلى لحظة الحسم النهائي بقوله: هذا أنا وإلا أنت لك حق تختار، درب الشقا ما بيننا قاسمينه, فهو المتكلم والمخاطب معاً وهو القاتل والمقتول كما عند الحميدي الثقفي تماماً. وهو موجود أيضاً وبكثافة عالية في نص ملاحظات لعواض شاهر: ما اشد من ذا الجفاف الا ذراع اخطبوط بيني وبينه حروب الساحل مداولة هنا تشخيص دقيق ومكثف للحالة الشعرية، وبرغم الإيجاز الشديد في هذا النص إلا أنه يترك للقارئ حرية الدخول من أي الأبواب شاء، فما هو موجود وبكثافة هو الفراغ وحسب، المفضي لشيء واحد فقط هو القلق، ويصل النص إلى ذروته حين يتم استحضار تلكم الذراع ومحاولاتها الدائمة في الإلتفاف حول الشاعر والإيقاع به، فيما هو مشغول في ابتكار أساليب وحيل جديدة تظهره كند عنيد، أو على أقل تقدير تطيل من أمد المعركة، لتنتج بذلك تشابكاته اللغوية التي تتسم بالتوتر وشحن الموقف بكمية كبيرة من صور المفاجأة والترقب. لكن هذه الحالة تأخذ عند مساعد الرشيدي منحى آخر، فهي تغلي وتمور إنما من الداخل: كذوبه يالهجوس اللي على الخاطر تجي وتروح بغيت ازبن ذراها واستريح وما تهيا لي ورحت اتلي شتاتي واترجى صوتي المبحوح تموج بي الدروب ومسند كفي على ظلالي وبكفاءة بديهة متمرسة يسند مساعد الرشيدي كفه المبدعة على ظلال يمتليء بها وتمتليء به، وبصوت أنين متقطع وبنبرة مليئة بالشجن يبدأ بسرد المشهد، على نحو يبدو فيه التوتر وهو يتخذ شكل موجة تبدأ أول ما تبدأ صاخبة وعالية وما تلبث أن تخفت قليلاً قليلاً، لتعاود الظهور بنفس القوة السابقة، لكنها في كل الأحوال تظل مشتعلة تحت سطح الكلمة مستعدة للمنازلة في أي وقت. بقي أن أقول إن القلق والشعر يكادان يكونان شيئاً واحداً, فأنت تقلق فتتساءل، تقلق فتتخيل، تقلق فتحلم، تمتليء بالقلق فتعبّر.