قال أبو عبدالرحمن: آل الحصيِّن شجرة مباركة: وارفة الظِّلال، شهيَّة الثمار.. ومنهم الشيخ عبدالرحمن الحصين وذريته جعل الله كل الخير إرثاً في أعقابهم، وقد أدركته رحمه الله تعالى رئيساً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (رئيس النواب بالعرف العامي آنذاك) بشقراء، وله ثلاث ميزات لم أجدها مجتمعةً عند غيره: أولاها الاجتهاد في العبادة ولا سيما نوافل الصلاة، وثانيتها القيام بالاحتساب في غير عمله الوظيفي؛ فهو يفتح دُكاناً لا للتجارة، بل ليكتب التوثيقات الجديدة، وينسخ القديمة مَجَّاناً، ويوزِّع الأوراق على المحتاجين، ويسمونها (فروخاً)، وهي أوراق صفر تجد في ظهرها آثاراً من ورق الشجر الذي صُنعت منه تبدو على استحياء.. وثالثتها ذكاء ودهاء خارق يُلْجِمه وَرَعُه.. ومات رحمه الله ميتة حسنة؛ إذْ وقع عند باب المسجد النبوي لمَّا نزل به الحق مُتَلَبِّثاً بالعبادة، وهي بشرى نَفْرح بها جعلنا الله وإياه خيراً مما يُقال، وغفر الله لنا ما لا يعلم القائلون.. ولعل تعبُّده وابتهاله أدرك ذريته وحفدته؛ فكانوا أسرةً مَغْبوطَةً مُحسَّدة.. وبالأمس فقدنا الجبهة العلمية ذا السيرة العجيبة في الورع والحصافة، وهو ابنه الشيخ صالح رحمه الله تعالى، وكنت أَسْتَمِخُّ ذاكرتي لأكتب عن تعزيته ذكريات قليلة جداً كنت فيها راوياً عنه مباشرة، وذكرياتٍ كثيرةً من المناقب تُروى عنه، وكنت أُريد التثبُّت منها من لسانه، ولكنه رحمه الله يموج عن الإدلاء فيها بصراحة، ومن ذلك أنني في آخر زيارة له بصحبة الدكتور محمد الفريح اهتبلتُ سعةَ صدره لأسأله عن صلته بإمام القانون عبدالرزاق السنهوري، وما تواتر من اعترافه بأن صالح الحصين ثالث رجل قانون في العالم الإسلامي، فذكر لي صلته الحميمة بالسنهوري، وأنه لا يذكر شيئاً من شهادته له بذلك الإطلاق.. ومنهجه كمنهج السنهوري أو أزكى في جعله ميزة القانون الوضعي لا مُجْمَله خادماً الشَّرْعَ؛ بأن يكون دليلاً ترجيحياً عند اختلاف الفقهاء، وأن يُفاد من مُنْجَزاته لمعالجة الوقائع المستجدَّة.. ولكنَّ تعزية الدكتور الفريح له في هذه الجريدة بصفحة كاملة صرفتني عن المشاركة؛ فلن تَرْمُقَ عينٌ تعزيتي بعد إفاضته؛ فهل الدكتور الفريح هو صاحب (عِطْرِ العَرُوس)!!!.. وبحمد الله لما فاتتني الصلاة عليه صلَّيتُ عليه بجماعتي أهل المسجد، وكانوا ثلاثة صفوف ونيِّفاً؛ فارتاح خاطري.. ويلي صالحاً أخوه سعد متَّعنا الله به،هو يتمزَّق غيرةً على دينه، ولكنه في كتاباته - لا في مهاتفته - ليس في هدوء صالح ولينه، بل هو (مِدْفَع فتح)، وليس هو (مِدفَع سِرْهِيد) يُنَبِّه الصائم وحسب.. ولا يكاد يمرُّ أسبوع إلا وله مقالة أو مقالتان يسحبهما على الورق بياناً وردَّاً.. ولقد استمتعتُ بمقالته (مَنْ خير أمة أُخْرِجَت للناس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم) المنشورة في جريدة الجزيرة في صفحة كاملة بالعدد 4834 ص19، وأثلج صدري ذكره نماذج من علماء مملكتنا الحبيبة كسماحة الشيخ ابن باز، وسماحة الشيخ صالح الفوزان، وسماحة الشيخ صالح اللحيدان؛ لأن ذكره هؤلاء - شارحاً لا حاصراً - يحرِّك الذهن إلى المقارنة والمفارقة لأكثر من سيما نراها اليوم؛ فمنهم مَن يَهْذِبُ بالفتوى بلا علم، ومنهم المتضامن (سراً، أو مراوَغة) مع حركيِّين بينهم وبين أعداء الله الباطنية وليجة بعد أن طرحوا سِتْر التَّقِيَّة الصفيق؛ فصاروا في محطَّاتهم الفضائية يسخرون بكلام الله، ويرون أنه من وَضْع الصحابة.. على وجوههم القبيحة ما يظهر من أسافلهم.. ومنهم من يجامل أيَّ تيَّارٍ جارف كسباً للشعبية التي هي بلاء ومصيبة كبرى عند لقاء الله إن لم يَجُبَّ ذلك توبةٌ نصوح.. ومنهم المُتمشيخ الحريص على منصبه، ومنهم المثال الحي من قول ابن سينا - وحكمته هذه خير من مذهبه وسيرته -: ما لي أرى حِكَمَ الأفعال ساقطةً وأسمعُ الدهرَ قولاً كله حِكَمُ وهذه النماذج من الشيوخ الذين ذكرهم سعد، وغيرهم ممن لم يذكرهم كالشيخ عبدالمحسن العباد، والشيخ عبدالعزيز الداوود رفعه الله بالعافية، والشيخ عبدالله الفنتوخ.. وغيرهم من الكهول كالشيخ صالح ابن حميد وأخيه الفقيه أحمد.. وغيرهم من الشباب كالدكتور خالد الشايع صاحب البرنامج الإذاعي المبارك المليح، وعبدالرزاق العباد، والدكتور الفريح الذي تزلق الصعوة على لسانه، والدكتور العنقري، والشيخ عبدالمنعم الذكر الله - وهو عيبة علمٍ بتحقيق وتدقيق -، والدكتور فهد الرومي.. وكان الدكتور عبدالله التركي كالغيث أينما وقع نفع.. وأما كاتب هذه السطور فيشهدكم على نفسه، ويُشهد الثقلين معاً أنه: (دَلْوُ ماءٍ، ودَلْوُ طين).. وكل هؤلاء تربيةُ دولةٍ وجماعة أقامها بعون الله وتوفيقه المحمَّدان، ولا يزال امتدادها الكريم حاطه الله بالعصمة والنصر.. وفي هذا التاريخ لم نجد دولة وجماعة تتحرَّى ما عليه الأمر الأوَّل غيرها، ولم نجد جماعة ودولة تحكم بدين الله غيرها؛ وذلك بعد انتشار البدع، وما فرضه المُتنفذون من القانون الوضعي والأيديولوجيات؛ وإنما وُجِد نُزَّاع من ذوي العلم والخير وتحرِّي ما عليه الأمر الأول كأستاذ الجيل عبدالرزاق عفيفي رحمه الله تعالى؛ فالخاطر مُطْمَئِن ومنشرح على أن هذه الجماعة بدولتها هي الطائفة التي بشَّر بها عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وخاذِلها الذي لا يضرُّها ليس هو عدوُّها من الأغيار، وإنما هو ابن جلدتها؛ فهو الذي ينطبق عليه معنى (خاذل)، وأما الأغيار فما كانوا (وُدّْاً) حتى يكونوا خاذلين.. وهم من ضمن (خير أمة)؛ لأن تلك الأمة هي أمة (الإجابة) من الناس كافة؛ فإذا رأيتَ دولةً وجماعةً فيها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تمنح الرعوية لكافر، وتُقيم حدود الله: فاعلم أنها في ذُروة وعُمق الخيريَّة، وقد تقصَّيتُ ذلك في كتابي الذي ستصدره قريباً إن شاء الله دارة الملك عبدالعزيز عن خصوصية الدولة والقائد.. لقد أوردتَ يا سعد حَقّْاً، ولكن لي في هذه العجالة ملاحظتان أبوح بهما، وملاحظات ألْحنُ بها في كتاباتي، وما أراك إلا متابعاً لجدِّ الظاهري وهزله؛ فالملاحظة الأولى أن لا نتَّكل ونتواكل؛ فالزحف ضِدَّ هُوِيَّتنا قويٌّ متشعِّب؛ فلابد من التكاتف، وليس هو حمل العِصِيِّ والمشاعيب كما فعل قِلَّة من الحنابلة مع الإمام ابن جرير لما حكم بأن الإمام أحمد مُحَدِّث؛ فلم يذكره في كتابه (اختلاف افقهاء)، والمذهب الذي نرثه اليوم هو (مذهب الحنابلة) لا (مذهب الإمام أحمد) رحمه الله تعالى.. ولأن ابن جرير كتب: (سبحان من ليس له أنيس وليس له على عرشه جليس)؛ فاضطر هذا الإمام الجهبذ أن يعتذر منهم بكتاب، ولو كان الإمام ابن حزم ما فعل؛ فما عهدناه مُنْحنياً وإن جَل الخطب، وكذلك فتنتهم مع الشافعية عند الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية.. والتكاتف الذي أعنيه شدُّ الأواصر بين سُراة الهمِّ الواحد، والتعامل بروح العصر لا تنازلاً عن حقائق الدين، ولكن بلغة جميلة مُؤدية، وفكر طليقٍ مُنَظَّم متحرِّر إلا من العبودية لربه بشرعه.. وباحتضان عامة شباب المسلمين أديبهم التراثي والحداثي، وَلُغَوِيِّهم التراثي والبنيوي، ومؤرخهم، وإعلامييهم، والملتزم منهم والزِّكِرْتي ككاتب هذه السطور سابقاً (وبالرغم من هذا الداء احتضنني سماحة الشيخ ابن باز قدس الله روحه ونور ضريحه).. احتضانِهم ببشاشة، ومجاراتهم في المباح بتودُّدٍ ودعاء لهم بظهر الغيب، وأن تكون المناصحةُ مطارحةً لا تأستذاً.. ولا بد يا مشايخنا من التَّحَلِّي بشيئ من ثقافة العصر وأدبيَّاته، وليس بعزيز بعد الله على أهل الخير والدولة أن تُعِين العلماء الربانيين بفتح مَضْيفة في بيوت أعلام المشايخ في الأسبوع مرتين أو ثلاثاً، وأن يمنحوا نصف نشاطهم في ندوات العلم ولقيمات يُقِمْن الصلب للعطاء وتفهُّم أحوال الناس مع الدعابة؛ فإنَّ جِسْر الصلة والتآلُف والاندماج مع المشايخ والمثقفين مفقود.. والملاحظة الثانية أنه مع الاعتراف بهذه الخيريَّة لا ندَّعي أننا على الحق محضاً، بل لنا أخطاء - وهي مغمورة في كثرة حسنات تاريخنا - بعضها من الخطإ عن حسن قصدٍ في تحرِّي الحق، وبعضها يتخَلَّف فيه حسن القصد سهواً ولا نشعر به، وذلك بالتعصُّب لبعض العلماء (والتعصُّب يُفْسد حسن القصد) الذين بحثوا في أمور من الغيب وهي لا تقع في الدنيا، فزلَّت بهم الأقدام إما من أثر الفلسفة وعلم الكلام كما عند الإمام ابن حزم، أو من أثر تلك الآفة مع آفة التقليد لَمَّا غلب في ظن العالِم أن الصواب بإطلاق في مذهب إمام بعينه كما في اعتقاد ابن تيمية رحمه الله تعالى وترجيحه مذهب إمامه أصولاً وعقيدة؛ ولهذا وقع في أخطاء، وهي كثيرة في الغيبيات لم يدقِّق المقلدون في خطئها من سفسطات الفكر.. والإمام ابن تيمية لم يُعالج ضلالات الباطنية مِن فراغ - وضلالهم قبل خلعهم ستار التَّقية -، بل هو مُكمِّل لأئمة ألام قبله؛ فلماذا نغمطهم حقهم؟!.. والإمام ابن تيمية سريع الكتابة والإملاء - والعلم لا ينقاد في مثل هذا الجَوِّ مهما كان الذكاء -؛ فتراه في الإملاء السريع بمجموع الفتاوى يحكم باستحباب العمرة ويُطيل الاستدلال، وتراه مُتأنِّياً في شرح العمدة ينقض ما أبرمه ويقول بوجوبها مرة في العمر.. وتراه يحكم بأن أخوة يوسف عليه السلام في كتابه عن النبوات أنبياء ثم ينقض ما أبرمه في رسالة خاصة.. ونماذج ذلك كثيرة في كُنَّاشتي.. لا والله، بل نحن مَحْبُورون بدولتنا وجماعتنا، ولسنا متعبَّدين بتقليد ابن حزم أو ابن تيمية أو تلميذه ابن قيم الجوزية، وقد أكمل الله الدين قبل خلقه إياهم، بل نردُّ إلى ما عليه (الأمر الأول) بالحذق الجيد للغة العرب وطرق التوثيق التاريخي، والتحقيق التجريبي الوافي لنظام العقل في المعرفة والعلم، ومدى إدراكه وتوقُّفه.. فإن أبيتم إلا اتباعهم فديني يأمرني أن لا أقول ما لا أعلم، أو أن أُغَيِّب ما أعلم، وأن لا يكون إمامي غير شرع الله ومنهج السلف الذين هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكلُّ مَن سواهم موزون اتباعه لهم بإحسان بما هم عليه.. واجتهادي لنفسي عن صدق، وخلوص نية، واستيعاب علمي حسب القدرة بلا عجلة: هو الذي يُرجِّح ميزاني عند ربي، وما لم أعلمه أستفتي عنه مَن أثق به من أهل العلم حتى أعلم، وأما تفويض الأمر كله إلى عالم أُقَلِّده وأنا من أهل العلم فذلك مما يُخاف على العالم المسلم منه.. أيجتهد في نصوص إمامه ولا يجتهد في فهم شرع ربه؟.. وبعد هذا كله فالتهالك على تقليد ابن تيمية جاء أكثره في دقائق فكرية أجزم بأن أكثر المقلدين لا يفقهها؛ فيعلم الخطأ والصواب، ولا يتقن مصادرها لدى مفكري المسلمين ومفكري العالم؛ وفي هذا إسقاط مواهب الآخرين؛ وإذا كان الإمام ابن تيمية فذاً في الورع والجهاد والذكاء ذا شمول في الثقافة الفكرية والشرعية: فليس هو أخص بالعلم من ذوي التخصص في فنِّهم؛ فابن كثير أعلم منه بالحديث والتفسير، والذهبي أعلم منه بالرجال، وأبو حيان أعلم منه في اللغة والنحو، وابن دقيق العيد أقعد منه في الاستنباط، والمشاركون له في الجهاد والورع كثير بحمد الله - ولو خَلِيَتْ لخربت -، ومَن يفوقه في الذكاء أكثر؛ فهذا التعصب لعالم فاضل من غير فهمٍ لسفسطات الفكر الفلسفي والكلامي، وتجريد الصواب والإصابة عنده مدعاة فرقة بين أمة أهل الإسلام؛ فدين الله بشروطه في الفهم أحق، وكل يؤخذ مقوله ويُرَدُّ إلا مُبَلِّغ الرسالة؟!.. وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال. - عفا الله عنه -